“الإسلام الإخواني”: النهاية الكبرى
يفتح القرار التنفيذي الذي أصدره أخيرا الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”، والقاضي ببدء مسار تصنيف فروع من جماعة “الإخوان المسلمين” كمنظمات إرهابية، نافذة واسعة على مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز أثرها حدود الجغرافيا الأميركية نحو الخريطة الفكرية والسياسية للعالم الإسلامي بأكمله.
وحين تصبح إحدى أقدم الحركات الإسلامية الحديثة موضع مراجعة قانونية وأمنية بهذا المستوى من الجدية، فإن الرسالة الحقيقية تتجاوز البعد الإجرائي إلى سؤال كوني أكبر: هل يوشك “الإسلام السياسي” أو “الإسلام الإخواني” أن يطوي آخر صفحاته بعد أن استنفد وظائفه التاريخية والسياسية؟
تبدو اللحظة مناسبة لاستيعاب حجم التحول الجاري، فالمشروع الإسلامي الذي ولد في ثلاثينيات القرن الماضي على أنقاض انهيار الخلافة، وتغذى لعقود من فراغ التمثيل السياسي في العالم العربي، يجد نفسه اليوم محاصرا من كل الاتجاهات: انهيار النموذج النظري، تفكك التنظيمات، إخفاق التجارب السياسية حيثما وصلت إلى الحكم، وتراجع القواعد الاجتماعية التي كانت تمنحه معنى الحضور والامتداد.
في نظري لقد تحول النقاش حول “الإسلام السياسي” الآن من جدل فكري وسياسي إلى سؤال يتعلق بإمكان استمراره نفسه، بعدما أصبح وجوده مرتبطا بالتحولات الكبرى التي يعاد عبرها تشكيل النظام العالمي على أنقاض صراعات الشرق الأوسط، وحروب الهويات، والتحول العميق في موازين القوة وأولوياتها.
أرى أن التصنيف الأميركي المحتمل يشير إلى نهاية حقبة أو دورة تاريخية، فواشنطن، التي اعتمدت طويلا نهج البراغماتية و”الاحتواء الحذر” تجاه الحركات الإسلامية، تميل اليوم إلى إدراج فروع من الإخوان ضمن منظومة الإرهاب العابر للحدود، ودفع ملفهم إلى صلب استراتيجيتها الأمنية، وهذا التحول يعكس إعادة رسم لخريطة التهديدات في عالم يتجه سريعا نحو صراع الأقطاب وتشكيل منظومة دولية جديدة.
إن الحركات الإسلامية التي شيدت سرديتها على وعود الخلاص السياسي ورفعت شعارات العدالة والهوية والتمكين، تجد نفسها اليوم في مواجهة عالم لم يعد يقبل باليقينيات الإيديولوجية المتقادمة، فقد شكل الربيع العربي اختبارها الحاسم، ثم كشفت السنوات اللاحقة محدودية قدرتها على التكيف مع الدولة الوطنية والاقتصاد الحديث، ومع مجتمع يبحث عن معاني جديدة للقيم.
يبدو أننا نقف أمام تحول عميق يعيد تشكيل الطريقة التي نفهم بها الإسلام ذاته، فالتفكير الديني يتجه اليوم نحو مراجعات نقدية في جميع الاتجاهات، وتبرز مسارات روحية وعرفانية تمنح التجربة الدينية أفقا أرحب، فيما تفرض التطورات العلمية والتكنولوجية والقيم الكونية ضرورة قراءة أكثر انفتاحا للنصوص التي نعتبرها مقدسة.
ويغدو المستقبل أبعد ما يكون عن مشاريع الأسلمة الشاملة أو خطاب الهوية المنغلق، وأقرب إلى تصور ديني جديد يتأسس على المعرفة الواسعة، والتأويل المتجدد، والقدرة على العيش المشترك.
وأعتقد أن نهاية الإسلام السياسي، الذي تبلور في صيغته الحديثة مع تجربة الإخوان المسلمين، يشكل فرصة تاريخية لإعادة قراءة الدين بمعايير العصر: قراءة تتجاوز وهم السلطة، وتتحرر من الخطابات التي غذت “المشروع الإسلامي ” الواهم لعقود، لتستعيد بعده الروحي العميق بما ينسجم مع حاجات الإنسان وقيم العالم المتجددة.
لقد أدى “الإسلام السياسي” دوره التاريخي، وآن لهذا الدور أن ينتهي، وبينما تتساقط أدواته واحدة بعد الأخرى، يتقدم العالم نحو حقبة أكثر تعقيدا، وأكثر انفتاحا، وربما أكثر قدرة على إنتاج تأويل جديد للإسلام نفسه.
ينبغي أن نمتلك شجاعة التخلي عن “مشروع إسلامي” استنفد صلاحياته التاريخية، لننخرط في صياغة فكر جديد ينسجم مع زمن تتبدل فيه البنى والأفكار والعلاقات على نحو عميق.
التعليقات