حين يتحوّل الخوف من الله إلى سلاح فتاك بيد الجماعات المتطرفة
الشيخ الصادق العثماني ـ أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
في زمنٍ تتشابك فيه الخطابات الدينية مع الأزمات الاجتماعية والنفسية، بات الحديث عن العلاقة بين التدين والصحة العقلية ضرورة ملحّة أكثر من أي وقت مضى. لم يعد الأمر ترفًا فكريًا أو بحثًا نظريًا داخل قاعات الجامعات؛ بل قضية تنتصب اليوم في صلب الأمن الروحي للمجتمعات المسلمة، بعدما أثبتت الدراسات والوقائع الميدانية أن الخوف الديني المبالغ فيه، حين لا يُفهَم ضمن حدوده الصحيّة، يتحوّل إلى مدخل خطير تستغله جماعات التطرف والتكفير، فتنسج حوله خيوطًا محكمة للسيطرة على الأفراد وتوجيههم نحو مسارات مرضية ومدمرة.
في أحد شوارع ساوباولو الصاخبة، حيث التناقض بين الهدير الحضري والبحث عن السكينة الروحية، يروي لي طبيب مسلم متخصص في الطب النفسي قصة شاب ثلاثيني أصبح أسيرًا لطقوس دينية متكررة تفقد معناها الشرعي وتتحول إلى عبء خانق. كان هذا الشاب يدخل في دوامة طويلة من الوضوء والصلاة، يعيدهما عشرات المرات في اليوم الواحد، مقتنعًا أن خطأً صغيرًا قد يودي به إلى نار جهنم غدا يوم القيامة.
الطبيب يؤكد أن مثل هذه الحالات باتت تتكرر باطراد، حتى صار “الوسواس القهري الديني” مصطلحًا حاضرًا بقوة في الممارسة العلاجية اليومية، لا سيما بين الشباب الذين يلجؤون للدين بحثًا عن الطمأنينة، فيجدون أنفسهم عالقين في شبكة من الأفكار المتسلطة.
هذا الاضطراب لا يقتصر على الإسلام وحده؛ فقد سجّلت مراكز علاجية حول العالم حالات مشابهة لدى يهود ومسيحيين، بل وحتى لدى أشخاص بلا خلفية دينية واضحة.
لكنه داخل السياق الإسلامي يأخذ منحًى أكثر حساسية، لأن الخوف من الله – وهو قيمة روحية سامية – يتحوّل لدى البعض إلى رهبة مَرَضية تقودهم إلى الانعزال وفقدان القدرة على أداء أبسط مهام الحياة اليومية، قبل أن يجدوا أنفسهم في مرمى جماعات تعمل باحتراف على استغلال هشاشتهم النفسية.
في مساري الدعوي والفكري، التقيت بأفراد كانت نظرتهم للدين قد اختُطفت بالكامل. كانوا يظنون أنهم يسيرون في طريق الالتزام، بينما هم في الحقيقة يجرّون وراءهم سلاسل من الوساوس التي تضخمت تدريجيًا حتى تجاوزت الدين نفسه.
بعضهم انحرف وانخرط في تيارت الإلحاد والمجون، والبعض الآخر انجرف إلى جماعات متطرفة تستثمر في هذا النوع من الاضطراب، فتقدّم نفسها كمرجعية دينية “منقذة” تملك الإجابات الجاهزة عن كل أسئلتهم، لكنها لا تفعل في الواقع سوى تغذية القلق وإشعال فتائل التشدد، ليصبح المريض – من حيث لا يشعر – أداة في مشروع أيديولوجي أكبر منه بكثير .
خبراء الطب النفسي يشيرون إلى خطّ دقيق يفصل بين التدين الطبيعي وبين الوسواس القهري الديني. فالمتدين السوي يعبد الله بمحبة وخشوع واستقامة، دون أن يفقد اتزانه أو يحرم نفسه من الحياة، بينما الغارق في الوسواس يعيش تحت وطأة الخوف المرضي، عاجزًا عن التمييز بين الواجب الشرعي والسلوك القهري.
وهذا الخلط هو ما يشكّل بيئة خصبة للتطرف، إذ يصبح الفرد قابلًا للتأثر بأي خطاب يقدّم له اليقين المطلق ويعده بالخلاص، مهما كانت نتائجه كارثية أو متطرفة.
تكمن الخطورة في أن العديد من المجتمعات الإسلامية لا تزال تربط أي اضطراب مرتبط بالدين بخطاب الوعظ وحده، معتبرةً أن العلاج يكمن في مزيد من النصح والإرشاد. غير أن المتخصصين يؤكدون أنّ العلاج يتطلب تدخلًا طبيًا حقيقيًا، يشمل العلاج السلوكي المعرفي، وربما الأدوية، إلى جانب تأطير ديني معتدل يعيد المريض إلى المعنى الصحي للإيمان. فالمرض النفسي لا يُشفى بالخطب، مثلما أن التطرف لا يُواجه بالعاطفة فقط.
إهمال هذا النوع من الاضطرابات يفتح الباب واسعًا أمام التيارات المتطرفة لاستقطاب هؤلاء المرضى، وتحويل معاناتهم النفسية إلى وقود لمشاريع الإقصاء والتكفير. وهنا يصبح الخوف من الله – الذي يفترض أن يكون مصدرًا للسكينة – سلاحًا في يد من يحسنون الاستثمار في الاضطرابات غير المعالَجة.
إن ترك المريض ضحية للقلق الديني دون تدخل علاجي هو تركه في مواجهة جماعات لا تتردد في توظيف مشاعره المضطربة لخدمة أجنداتها، في تحوّل خطير من العبادة إلى الاستغلال، ومن التدين إلى العنف.
المجتمعات التي تريد حماية نفسها من التطرف مطالَبة اليوم بأن تعيد التفكير جذريًا في كيفية التعامل مع الأمراض النفسية المتعلقة بالدين. فالمعركة ليست مع النصوص، بل مع سوء الفهم وسوء الاستغلال وسوء التوجيه. وما لم تتكامل جهود العلماء والأطباء والمربين، ستبقى الظاهرة تتفاقم بصمت، حاملةً معها مآسي فردية يمكن أن تتحوّل بين لحظة وأخرى إلى مآسٍ جماعية.
الدين الصحيح ليس مرادفًا للخوف، ولا يحتاج إلى طقوس منهكة ليكون الدين دينًا. والإيمان السليم لا يقوم على هدم النفس، بل على بنائها. وحماية العقول قبل أن تُختطف هي اليوم معركة لا تقل أهمية عن حماية الحدود.
وبين الخوف الصحي من الله والخوف المرضي الذي يُستغل لتجنيد الأتباع، مسافة يجب أن يتعاون الجميع على رسمها بوضوح قبل أن يدفع المجتمع الثمن من أمنه واستقراره ومستقبل أبنائه .
التعليقات