الصراع بين العقل والنقل في التراث الإسلامي: جدليةٌ لم تُحسم بعد
الشيخ الصادق العثماني ـ أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
يشكّل الجدل حول العلاقة بين العقل والنقل أحد أكثر الملفات الفكرية حساسية في التراث الإسلامي، إذ لم يكن مجرّد نقاش نظري هادئ بين مدارس متباينة، بل تحوّل عبر القرون إلى ساحة صراع محتدم دفع ثمنه كبار الفلاسفة والمفكرين الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة سلطة الفقهاء وهيمنة القراءة النصية الصارمة.
وقد أدّى هذا الصراع في كثير من الأحيان إلى تكفير الفلاسفة واتهامهم بالزندقة، وإلى إخراج الآلاف من دوائر الحياة العلمية الإسلامية لمجرّد تبنّيهم آراءً عقلية أو تأويلات فلسفية لا تستجيب للضوابط التقليدية التي فرضتها المدارس النقلية.
لقد بدأ هذا الصراع منذ اللحظة التي اخترق فيها العقل المسلم تراث اليونان عبر الترجمة، فوجد نفسه أمام عوالم معرفية جديدة، وطرائق مختلفة في الجدل والبحث والبرهان.
وكانت الفلسفة بالنسبة لأعلام كبار مثل الفارابي وابن سينا وابن رشد فضاءً رحباً لفهم الكون والوجود والإنسان، وللتوفيق بين الحكمة والوحي.
غير أن هذا الانفتاح قوبل بردود قاسية من بعض التيارات الفقهية التي رأت في الفلسفة تهديداً مباشراً لـ«صفاء العقيدة»، واعتبرت أدواتها العقلية دخيلة على الدين.
وهكذا صار السؤال الفلسفي نفسه متهماً، وصار التفكير الحرّ عبئاً ثقيلاً لا يتحمله المناخ التقليدي الذي أسند إلى النقل موقع السلطة والقداسة، بينما حاصر العقل داخل أسوار ضيقة لا يحق له تجاوزها.
هذا الاضطراب الفكري نفسه انعكس على علم الكلام، الذي وجد نفسه بين مطرقة أهل الحديث وفقهاء السلف الذين رأوا في الخوض فيه بدعة تؤدي إلى التشكيك في النصوص، وبين العلماء والمتكلمين الذين اعتبروه ضرورة دفاعية لحماية العقيدة من شبهات الملاحدة والفلاسفة والمخالفين.
لقد كان علم الكلام، في نظر مؤسّسيه، شكلاً من أشكال «الدفاع الشرعي» عن بيضة الإسلام، بقدر ما كان محاولة للعقلنة المنظمة للعقيدة. وقد جاءت التجربة الأشعرية بقيادة الإمام أبي الحسن الأشعري لتكرّس هذه المسافة الوسطى بين العقل والنقل، مُمَأسِسةً منهجاً يقوم على استخدام أدوات الجدل العقلي دون الانسلاخ عن سلطة النص.
غير أن مجرّد وجود مسافة بين الطرفين كان يُعدّ في نظر التيار التقليدي خروجاً عن «طريق السلف»، فاستمرّ الهجوم على المتكلمين، لا لشيء إلا لأنهم اجتهدوا في «تفسير الإيمان» من داخل سياقهم، وبما يتناسب مع تحديات عصرهم.
إن أخطر ما تركه هذا الصراع ليس خسارة فلاسفة كبار قُتلوا أو كُفّروا أو نُفيت أعمالهم، بل ضياع ثقافة السؤال داخل الوعي الإسلامي. فقد تحوّل التكفير إلى سلاح معرفي يُستخدم لإقصاء المختلف، ونشأت طبقات من الفقهاء كان همّها الأساسي ضبط «الرواية الصحيحة» أكثر مما كان همّها إنتاج معرفة جديدة قادرة على مواجهة الزمن.
وهكذا ساد طابع من التوجس والريبة تجاه التفكير الحر، وكأن الخشية من العقل واجبة أكثر من الخشية على الدين نفسه. وعلى الرغم من أن القرآن – النص المقدّس ذاته – زاخر بعشرات الآيات التي تخاطب العقل وتدعو إلى التدبّر والتفكّر والتعقّل، إلا أنّ هذا المعطى القرآني لم يُترجم بصورة بنيوية داخل الفكر المؤسسي العام، فظلّ العقل في أحسن الأحوال شريكاً ثانوياً، وفي أسوئها خصماً متهماً.
المفارقة أن هذا الجدل القديم ما يزال حاضراً اليوم بشكل لافت، رغم التطور الهائل الذي شهده العالم. فهناك تيارات لا تزال تصرّ على أن باب الاجتهاد قد أغلق، وأن الواجب هو الوقوف عند حدود أقوال السلف والفقهاء الأوائل، باعتبارها تمثّل الفهم النهائي للدين.
وفي المقابل، يُصرّ تيار فكري آخر على أن الاجتهاد ضرورة لا مهرب منها، وأن النصوص الشرعية يجب أن تُقرأ في ضوء مقاصد الشريعة وروحها الأخلاقية والإنسانية، لا من خلال ظاهرٍ جامد تحوّل إلى سياج يغلق كل أبواب التطور.
هذا التيار يرى أن الواقع الإنساني تغيّر بشكل جذري: فأنماط العيش، ومؤسسات الدولة، والشبكات الاقتصادية، والعلاقات الاجتماعية، والتكنولوجيا، والعلوم، والبحث العلمي، كلها عناصر لم تكن معروفة في القرون الأولى، وبالتالي لا يمكن الإفتاء بشأنها اعتماداً على تصوّرات فقهية تعود للعصور الوسطى.
إن العودة إلى النص القرآني والنبوي بعيون جديدة لا تعني إسقاط التراث، بل تعني إدراك أن هذا التراث نفسه كان ثمرة اجتهادات بشرية في سياقات تاريخية معيّنة، وأنه ليس نصاً مقدساً. ومن ثم فإن تطوير الفقه اليوم هو جزء من الوفاء لروح الدين وليس تمرداً عليه.
إن الدين الذي جاء ليهدي الإنسان ويحقق مصالحه لا يُعقل أن يتحوّل إلى منظومة جامدة تُعطّل العقل وتضيّق على الإنسان حياته، خصوصاً في عالم بلغ من التعقيد ما يجعل الفتاوى القديمة غير قادرة على الإجابة عن كثير من الأسئلة الراهنة.
إن المعركة الفكرية الحقيقية في عصرنا ليست بين الدين والعلم، ولا بين الإيمان والفلسفة، بل بين فهمين للدين: فهمٌ يقدّس الماضي ويرى أن كل جواب موجود سلفاً، وفهمٌ آخر يثق بالعقل ويؤمن بأن النص قابل للتجدد كلما تجددت الحياة.
والفرق بين الفهمين هو الفرق بين أمة تقف على هامش التاريخ، وأخرى تصنع مكانها داخله. فالحضارة الإسلامية بلغت أوجها في اللحظة التي تزاوج فيها العقل مع الوحي، وفي اللحظة التي تحوّل فيها السؤال إلى قيمة معرفية لا إلى تهمة أخلاقية.
اليوم، وبعد قرون من الانغلاق والتوجس، تبدو الحاجة ماسّة إلى مصالحة كبرى بين العقل والنقل، مصالحة تُعيد للعقل مكانته التي منحها له القرآن، وتسمح للدين بأن يستعيد دوره الحضاري بعيداً عن الجمود.
إن اعتماد منهج مقاصدي في فهم النصوص، ينطلق من قيم الرحمة والعدل والكرامة، ويستوعب مستجدات العصر، هو وحده الكفيل بأن يخرج الفكر الإسلامي من أزمته المزمنة، ويضعه على طريق قادر على مواجهة المستقبل بثقة.
وهكذا، فإن الصراع التاريخي بين الفلاسفة والفقهاء، وبين المتكلمين وأهل الحديث، ليس سوى جزء من معركة أكبر حول طبيعة العقل المسلم وموقعه في منظومة المعرفة.
وإذا كان الماضي قد دفع ثمناً باهظاً نتيجة الخوف من السؤال، فإن المستقبل لن يكون أفضل ما لم ينتصر العقل المقاصدي الذي يزاوج بين النص وروحه، بين الثابت والمتغير، وبين الإيمان العميق والوعي المتجدد.
فدينٌ يُقصي العقل، هو دينٌ يعجز عن مواكبة الحياة، ودينٌ يحتضنه، هو دينٌ قادر على أن يكون رسالة رحمة للعالمين، كما كان في بداياته الأولى.
التعليقات