كيف يحول الإخوان المسلمون وسائل التواصل إلى مصانع للوهم ؟
تحرير : وجدان ناجي
لم يعد الكذب في زمننا يختبئ في الظلال، بل أصبح يضيء شاشاتنا كل لحظة.
في هذا العالم الذي تختلط فيه الحقيقة بالخيال، وجد الإخوان المسلمون في منصات التواصل الاجتماعي سلاحا مثاليا لصياغة واقع بديل، يربك العقول ويزرع الشك في كل رواية رسمية. لقد فهموا مبكرا أن السيطرة على المعلومة تعني السيطرة على الوعي، وأن الكلمة حين تُسلّح بالعاطفة يمكن أن تهزم حتى الوقائع الموثقة.
منذ نشأتها، أدركت الجماعة قيمة الإعلام في تشكيل الرأي العام. في العقود الماضية، اعتمدت على الصحف والمجلات والمنابر الدينية، أما اليوم فقد استبدلتها بخوادم وشبكات رقمية قادرة على الوصول إلى ملايين المستخدمين في دقائق.
لم تعد الرسالة تمر عبر وسيط، فكل هاتف نقال أصبح منبرا، وكل مستخدم هدفا محتملا للتأثير. وهكذا تحولت وسائل التواصل إلى حقل تجارب سياسي ونفسي تُزرع فيه الأخبار المفبركة وتُسقى بالتعليقات الموجهة.
لا شيء عشوائيا في منظومة التضليل الإخوانية. هناك عقل مركزي يخطط، وفريق ينفذ، وجمهور يُستدرج.
تبدأ العملية من غرفة مغلقة يديرها أفراد يراقبون اتجاهات النقاش على المنصات، يحددون المواضيع الأكثر تفاعلا، ثم يضخون فيها رسائلهم الخاصة بذكاءٍ لغوي وعاطفي.
تُنشأ حسابات مزيفة بوجوه وهمية، تحمل أسماء عربية مألوفة، وتنشر المحتوى ذاته في توقيت واحد لإيهام المتلقي بأن “الناس” يتكلمون بصوت واحد.
وهكذا، تتحول الفكرة الصغيرة إلى موجة رقمية جارفة يصعب التفريق فيها بين ما هو حقيقي وما هو مصطنع.
يعرف الإخوان أن الإنسان لا يصدق بالكلمة، بل بالإحساس. لذلك يعتمدون على ما يسميه علماء النفس “الهندسة العاطفية للمعلومة”:
يضعون صورة طفل يبكي قبل الخبر، أو آية قرآنية قبل الادعاء، فيغدو النقد ضربا من التجديف أو القسوة.
يمزجون المأساة بالسياسة، والدين بالظلم، والحقائق بالرموز الدينية، لتصبح الشائعة كأنها موقف أخلاقي لا يمكن معارضته.
بهذا الأسلوب، تتسلل الدعاية إلى القلوب قبل أن تمر بالعقول، وتتحول المعلومة الزائفة إلى قناعة راسخة يصعب زحزحتها حتى بعد انكشافها.
قد تبدأ القصة بتغريدة مجهولة المصدر، لكنها سرعان ما تتحول إلى مادة نقاش على فيسبوك، ثم إلى فيديو على تيك توك، ثم إلى برنامج حواري يرددها دون تمحيص.
تنتقل الأكاذيب مثل عدوى في جسد اجتماعي متعب، يبحث عن خلاصٍ أو تفسيرٍ لما يجري حوله.
والنتيجة أن الرأي العام يُصاب بالشلل: لا يثق في الإعلام الرسمي، ولا يصدق كل ما يُنشر، فيعيش بين الإنكار والريبة.
وفي هذه المسافة الرمادية، ينجح التضليل في السيطرة على الاتجاه العام، فيبدو أن الحقيقة لم تعد موجودة، بل مجرد “وجهة نظر”.
ليست هذه الحملات محصورة في دولة واحدة، بل تعمل بمنطق الشبكات العابرة للحدود.
منصات تنشط في تركيا وماليزيا وقطر وأوروبا، تدير محتوى موجها لبلدان عربية وإفريقية مختلفة، بل أحيانا بلغات محلية.
يعاد نشر نفس الأخبار بمسميات مختلفة عبر مواقع تحمل طابعا “إخباريا” لكنها في الحقيقة واجهات دعائية تخدم أجندة موحدة.
حتى المقاطع القديمة يعاد إخراجها بطريقة جديدة، فتبدو وكأنها مشاهد من الواقع الراهن، بينما هي في الحقيقة مواد من أرشيف الصراعات الماضية.
الخطير في هذا النمط من الدعاية أن الجمهور يتحول من متلقٍّ إلى مشارك.
المواطن الذي يعيد نشر الشائعة ظنا منه أنه ينصر قضية عادلة، يصبح من حيث لا يدري جزءا من آلة الخداع.
وهنا تكمن براعة الإخوان في توظيف القيم النبيلة نفسها — كالغيرة على الدين، أو نصرة المظلوم — لتبرير الأكاذيب وتوسيع انتشارها.
فلا أحد يظن أنه يروّج الكذب، بل يظن أنه “ينشر الحقيقة التي يخفيها الآخرون”.
لقد أفرزت هذه الحملات حالة فوضى معرفية غير مسبوقة.
انهارت الثقة بين المواطن والإعلام، وبدأت الدول تفقد قدرتها على ضبط النقاش العام.
المعلومة لم تعد ملكا للمؤسسات، بل لمن يصرخ أعلى ويجيد صناعة العناوين الجاذبة.
وفي ظل غياب التحقق وضعف التربية الإعلامية، أصبحت الكلمة أخطر من الرصاصة، والهاشتاغ قادرا على تحريك الشارع أكثر من الخطب والمنشورات.
ومع ذلك، بدأت تظهر مقاومة ناعمة لهذا التيار المضلل.
في السنوات الأخيرة، تشكلت مبادرات شبابية للتحقق من الأخبار ومكافحة الكراهية الرقمية.
بعض الجامعات والمراكز الإعلامية العربية بدأت تُدرّس التفكير النقدي وفهم الخوارزميات.
كما ساهمت المنصات الكبرى، وإن ببطء، في إغلاق آلاف الحسابات المرتبطة بشبكات منسقة تابعة للإخوان أو غيرهم.
هذه الجهود لا تزال متواضعة، لكنها تُعبّر عن وعي جديد يدرك أن حماية الحقيقة مسؤولية جماعية، لا وظيفة جهة واحدة.
الأنسنة في مواجهة التضليل ليست شعارا أدبيا، بل رؤية أخلاقية.
أنسنة الكلمة تعني أن نعيد لها ضميرها، وأن نستعملها لبناء الوعي لا لتفكيكه.
فالكلمة في ثقافتنا العربية ليست مجرد صوت، بل عهد بين الفاعل والمفعول به: عهد الصدق والأمانة.
كلما غاب الإنسان عن اللغة، تحولت الكتابة إلى آلة، والخبر إلى سمّ مغلف.
وحين نحول الإعلام إلى ساحة صراع بلا روح، نفقد قدرتنا على رؤية الإنسان في الحدث، والحق في الرواية.
يخوض العالم اليوم حربا بلا دخان، عنوانها “المعلومة”.
ولن تنتصر فيها الدول التي تملك الجيوش الأقوى، بل تلك التي تملك مواطنين أكثر وعيا.
إن إدراك الفرد العربي لقيمة الكلمة هو الخط الدفاعي الأول ضد التضليل.
فمنصات التواصل ليست شرا في ذاتها، بل مرآة تعكس من يستخدمها.
وحين نحولها من مصانع للوهم إلى فضاءات للوعي، نكون قد استعدنا روح الإنسان في زمن يهدد بتحويله إلى رقم في خوارزمية.