الطفل حسن يؤسس تنظيما سريا!

12 نوفمبر 2025

عمرو عبد الحافظ، باحث في الإسلام السياسي

كان للبيئة التي ولد فيها حسن عام 1906 أثر عظيم في نشأته المتدينة؛ والده أحمد عبد الرحمن مهتم بدراسة العلوم الشرعية، خاصة الحديث النبوي الشريف، وقد عكف سنوات طويلة على تصنيف كتاب حول مسند الإمام أحمد بن حنبل. أرسله في صباه ليتعلم على يد الشيخ محمد زهران صاحب مدرسة الرشاد الدينية، فأعجب به الصبي وتأثر، يصفه في مذكراته بعد سنوات طويلة بأنه “الذكي الألمعي، العالم التقي، الفطن اللقن الظريف، الذي كان بين الناس سراجا مشرقا بنور العلم والفضل يضيء في كل مكان”.

يقترب الطفل حسن من الطريقة الصوفية الحصافية، ويشارك في أنشطتها، ويعجب أشد الإعجاب بسيرة مؤسسها حسنين الحصافي التي تتناقلها أجيال الطريقة. ويلفت نظره همة الشيخ في محاربة المنكرات؛ من ذلك أنه زار يوما بعض مريديه من الموظفين في إحدى دوائر المساحة، فانزعج لوجود تمثال مكتمل من الجبس، فأسرع إليه وكسر عنقه، غير مكترث لاعتراض المفتش الإنجليزي. لا يناقش حسن في مذكراته فقه المسألة، ولا يسأل نفسه: هل يحق للشيخ أن يتدخل على هذا النحو أم لا؟ ولا يتطرق لبحث فتاوى تبيح استخدام هذا النوع من التماثيل في العلم والعمل، ولا فتاوى أخرى تعلل التحريم بمظنة التقديس والعبادة، فإذا انتفت العلة فلا حرمة هنالك. لا يناقش حسن في مذكراته التي كتبها في أربعينيات القرن العشرين شيئا من ذلك، إنما يكتفي بسرد مواقف مشابهة تروى عن شيخه الحصافي ويعقب: “هذه الناحية هي التي أثارت في نفسي أعظم معاني الإعجاب والتقدير وكان الإخوان يكثرون من الحديث عن كرامات الشيخ الحسية فلم أجد لها من الوقع في نفسي بعض ما أجده لهذه الناحية العملية”.

في المدرسة الإعدادية يشارك الطفل حسن بعض أقرانه نشاط “جمعية الأخلاق الأدبية” التي أسسها أحد المدرسين، وتهدف إلى مواجهة كل خلق ذميم، عن طريق تغريم مرتكبه من التلاميذ جزءا يسيرا من المال. ويروي في مذكراته من طرائف تلك المرحلة أن إمام مسجد صغير مجاور للمدرسة قد طرد منه عددا من التلاميذ الذين يصلون؛ خشية الإسراف في الماء وإفساد حصيره؛ فكتب إليه خطابا يحوي آية قرآنية واحدة: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه…) وأرسله إليه في البريد مغرّما؛ يقول حسن: “وأوحت إليّ خواطر التلمذة أن أقتص منه ولا بد… واعتبرت أن غرامة قرش صاغ كافية في هذا القصاص”.

يستشعر الطفل حسن مسئوليته عن تدين الناس، ويقتنع بضرورة تقويم المخالفين، ومعاقبة كل من يرتكب إثما حتى ينتهي عنه؛ فيؤسس في تلك المرحلة المبكرة من عمره تنظيما سريا صغيرا يضم عددا محدودا من أقرانه يسميه “جمعية منع المحرمات”. يراقب أعضاء التنظيم سكان مدينة المحمودية بمحافظة البحيرة، ويرصدون مخالفاتهم الشرعية ويرسلون لكل مخالف خطاب نهي وزجر؛ يقول حسن في مذكراته: “فمن أفطر في رمضان ورآه أحد الأعضاء بلّغ عنه فوصله خطاب فيه النهي الشديد عن هذا المنكر، ومن قصر في صلاته ولم يخشع فيها ولم يطمئن وصله خطاب كذلك، ومن تحلى بالذهب وصله خطاب نهي فيه حكم التحلي بالذهب شرعا، وأيما امرأة شاهدها أحد الأعضاء تلطم وجهها في مأتم أو تدعو بدعوى الجاهلية وصل زوجها أو وليها خطاب، وهكذا ما كان أحد من الناس صغيرا أو كبيرا يعرف عنه شيء من المآثم إلا وصله خطاب من الجمعية ينهاه أشد النهي عما يفعل”.

ولم يسلم شيخه محمد زهران الذي يجله من نشاط تنظيمه السري؛ فأرسل إليه ذات يوم خطابا يلفت نظره إلى أنه صلى فريضة الظهر بين السواري، وهو مكروه؛ لأن عالم البلد عليه أن يبتعد عن المكروهات ليبتعد غيره من العوام عن المحرمات.

وهكذا تظل أعين التنظيم السري الصغير تراقب وتتتبع سقطات الناس، دون تفريق بين محرم ومكروه تحريما أو تنزيها، تنشد كمالا لا يتحقق، ولا تدرك الخيط الرفيع بين الدعوة والوصاية.

يضطر حسن إلى حل تنظيمه السري الصغير بعد أن اكتُشف أمره، وينتقل إلى مدرسة المعلمين في دمنهور، وهناك يلاحظ مدير التعليم في إحدى زياراته المراهق حسن وهو يرتدي عمامة ذات عذبة ونعلا كنعل الإحرام في الحج ورداء أبيض فوق الجلباب؛ فيسأله عن سبب ارتدائه هذا الزي الغريب، فيجيب: لأنه السنة.

ومرة أخرى لا يناقش حسن في مذكراته فقه المسألة، ولا يعرف قارئها إلى أي دليل استند، ويكاد أن يعتبر الأمر كله من نزق الشباب المبكر، لكن الحقيقة تتجلى عندما يطلع على كتابات حسن شابا وكهلا، وقد أسس جماعة الإخوان المسلمين وصار يعرف بين الناس باسم حسن البنا.

في رسالته “نحو النور” التي بعث بها في غضون عام 1947 إلى الملك فاروق ورئيس الوزراء مصطفى النحاس وعدد من حكام العالم الإسلامي ورجاله البارزين؛ يقترح البنا عددا من خطوات الإصلاح العملي في ضوء الإسلام كما يفهمه، يقول في إحداها: “التفكير في الوسائل المناسبة لتوحيد الأزياء في الأمة تدريجيا”. يقترح ذلك دون أن يبين من أين له بهذا الفهم.

ويستمر القارئ في مطالعة مقترحات البنا، فيجد منها: “مراقبة سلوك الموظفين الشخصي وعدم الفصل بين الناحية الشخصية والناحية العملية”؛ ويجد منها كذلك: “اعتبار دعوة الحسبة ومؤاخذة من يثبت عليه مخالفة شيء من تعاليم الإسلام أو الاعتداء عليه كالإفطار في رمضان وترك الصلاة عمدا أو سب الدين وأمثال هذه الشئون”؛ فيرى أصداء لذلك التنظيم السري الصغير. لقد كبر حسن وكبرت معه أحلامه؛ يريد تقويم الأمة ومراقبتها ودفعها بسلطان الدولة إلى الالتزام بكل تفاصيل فهمه للإسلام، حتى وإن بدت في بعضها غريبة أو لا يمكن قياس مدى الالتزام بها. فالدولة في نظره “دولة رسالة لا تشكيل إدارة” كما يقول في رسالته “مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي”.

في عام 1938 يكتب البنا افتتاحية العدد الأول من مجلة النذير الإخوانية، ويعلن بداية مرحلة جديدة يهتم فيها الإخوان بالعمل السياسي، وأنه سيتوجه بدعوته إلى زعماء البلد “فإن أجابوا الدعوة وسلكوا السبيل إلى الغاية آزرناهم، وإن لجئوا إلى المواربة والروغان وتستروا بالأعذار الواهية والحجج المردودة فنحن حرب على كل زعيم أو رئيس حزب أو هيئة لا تعمل على نصرة الإسلام ولا تسير في الطريق لاستعادة حكم الإسلام ومجد الإسلام، سنعلنها خصومة لا سلم فيها ولا هوادة معها حتى يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين”.

وفي العام ذاته يلقي البنا خطابا مطولا في المؤتمر الدوري الخامس للإخوان، ويدعو الكبراء والأعيان والهيئات والأحزاب للانضمام إليه ويكرر الوعد والوعيد: “فإن أجابوا فهو خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة… وإن أبوا فلا بأس علينا أن ننتظر قليلا وأن نلتمس المعونة من الله وحده حتى يحاط بهم ويسقط في أيديهم ويضطرون إلى العمل للدعوة أذنابا وقد كانوا يستطيعون أن يكونوا رؤساء”.

ثم يتوجه بخطابه إلى الإخوان: “وفي الوقت الذي يكون فيه منكم، معشر الإخوان المسلمين، ثلاثمئة كتيبة قد جهزت كل منها نفسها روحيا بالإيمان والعقيدة، وفكريا بالعلم والثقافة، وجسميا بالتدريب والرياضة، في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كل عنيد جبار”.

يقر البنا في خطابه أن أعداد الإخوان كبيرة ويدلل على ذلك بأن ممثليهم في هذا المؤتمر آلاف، ولكنه يريد عند التنفيذ اثني عشر ألف رجل من طراز خاص.

أظهرت أحداث السنوات التالية أن البنا أسس في نهاية الثلاثينيات، إلى جانب تنظيمه العام المعلن، تنظيما خاصا سريا، انتقى أعضاءه من بين أعضاء التنظيم المعلن، وأن ذلك التنظيم السري قد تجهز بالسلاح لإحداث التغيير الذي يؤمن به البنا، وأن تهديده لرجال الأحزاب والهيئات لم يكن محض قول حماسي؛ يقول أحمد عادل كمال أحد قادة النظام الخاص في كتابه “النقط فوق الحروف”: “كذلك قمنا بعملية حصر مماثلة لرجالات الأحزاب في مصر، قمنا بحصرهم في منطقتنا ودراسة مساكنهم ومسالكها وما تيسر من المعلومات عنهم، وأذكر أني قمت ومجموعتي بدراسة بيت النقراشي باشا في مصر الجديدة وغيره، لم يكن هدفنا حينذاك التعرض لهم ولكنها دراسات متعددة الأهداف؛ فمن أهدافها كان تدريب الإخوان على هذا النوع من الدراسات، ومنها احتمال الحاجة إليها في يوم ما لعمل جاد، كما تم حصر عدد من الأهداف المحتملة والعمليات الممكن تنفيذها”.

في نهاية الأربعينيات اكتشفت أجهزة الأمن المصرية وجود تنظيم إخواني سري مسلح، وفي 8 ديسمبر عام 1948 أصدر رئيس الحكومة محمود فهمي النقراشي قرارا بحل الجماعة ومصادرة أموالها، ودفع حياته ثمنا لذلك القرار بعد عشرين يوما على يد أحد أعضاء التنظيم السري. أسقط في يد البنا؛ ولم يتوقع أن ينكشف أمر تنظيمه السري قبل الأوان، فأسر إلى القيادي الإخواني عبد العزيز كامل بما يشي بندمه على سلوك ذلك السبيل دون إعداد كاف، وقال، بحسب عبد العزيز كامل في كتابه “نهر الحياة”: “لو استقبلت من أيامي ما استدبرت لعدت بالإخوان إلى عهد المأثورات”.

عاش حسن البنا حياته كلها مقتنعا بضرورة إلزام الأمة بفهمه للإسلام، دون أن يبذل جهدا في تمحيص ذلك الفهم، ودون أن يعترف بحق الآخرين في مناقشته والاختلاف معه، ولجأ منذ صباه إلى العمل السري لتحقيق أهدافه؛ فاضطر في طفولته إلى إيقاف نشاطه السري الصغير بعد انكشاف أمره، ولم يمهله القدر ليرينا كيف كان ليتصرف بعد أن أميط اللثام عن تنظيمه السري الكبير.

التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد.

توكل كرمان.. من جائزة نوبل إلى خطاب الفتنة

عمر العمري تقدم توكل كرمان نفسها، منذ حصولها على جائزة نوبل للسلام سنة 2011، بوصفها رمزا عالميا للحرية وحقوق الإنسان، إلا أن مسارها الإعلامي والسياسي اللاحق سرعان ما كشف عن تناقض صارخ بين الشعارات والممارسة. فبدل أن تكون صوتا للحوار والسلام، تحولت إلى منبر للتحريض والتجريح، مستخدمة المنصات الرقمية لنشر خطاب عدائي يستهدف المغرب ومؤسساته […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...