الهوية الدينية المغربية وسؤال التسامح: من الأندلس إلى زيارات البابا وإعلان مراكش
الشيخ الصادق العثماني- أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
تُعَدّ الهوية الدينية المغربية واحدة من أكثر الهويات تفرّدًا وتميّزًا في العالم الإسلامي، إذ جمعت بين الأصالة والانفتاح، وبين الثبات على المرجعية الإسلامية المالكية الأشعرية والتصوف السني، وبين الانفتاح على التعدد الديني والاختلاف الثقافي. فالمغرب عبر تاريخه الطويل لم يكن مجرّد دولة مسلمة، بل فضاءً حضاريًا احتضن أتباع الديانات السماوية الثلاث، ونسج معهم تجربة إنسانية فريدة في التعايش والتسامح..
فمنذ قرون، لم تُبنَ المواطنة في المغرب على أساس ديني أو عرقي؛ بل على أساس الانتماء إلى الوطن تحت رعاية أمير المؤمنين، الذي يمثل المرجعية الدينية الجامعة لكل المغاربة، مسلمين ويهودًا ومسيحيين.
وحين طُرد المسلمون واليهود من الأندلس بعد سقوطها، لم يجدوا مأوى يحفظ كرامتهم وعقيدتهم سوى المغرب. فاستقبلهم السلاطين المغاربة وأكرموهم، وسمحوا لهم بممارسة شعائرهم الدينية بحرية تامة، وأسهموا في الحياة الاقتصادية والفكرية والثقافية للبلاد. في مدن فاس وتطوان والصويرة ومكناس وطنجة، عاش المسلمون واليهود جنبًا إلى جنب في سلام ووئام، حتى أصبحت تلك التجربة من العلامات المضيئة في التاريخ الإنساني .
في العصر الحديث، استمر هذا النفس المغربي المتسامح، وتجسّد في محطات تاريخية بارزة كان لها صدى عالمي. ففي سنة 1985، قام البابا يوحنا بولس الثاني بزيارة تاريخية إلى المغرب بدعوة من الملك الحسن الثاني رحمه الله، وهي أول زيارة لحبرٍ أعظم إلى بلدٍ مسلم.
ألقى البابا خطابًا أمام آلاف الشباب المغاربة في ملعب محمد الخامس بالدار البيضاء، تحدث فيه عن الإخاء الإنساني والسلام بين الأديان، بينما أكّد الملك الحسن الثاني أن الحوار بين الأديان ليس ترفًا بل ضرورة من ضرورات بقاء الإنسانية.
لقد أراد المغرب من خلال تلك الزيارة أن يقدم للعالم وجه الإسلام الحقيقي: إسلام الوسطية والاعتدال، لا إسلام الصراع والتكفير .
وبعد أكثر من ثلاثة عقود، وفي عهد الملك محمد السادس، استقبل المغرب زيارة أخرى تاريخية من البابا فرنسيس سنة 2019، وكانت تلك الزيارة تأكيدًا جديدًا على استمرارية النهج المغربي في ترسيخ قيم الحوار والاحترام المتبادل. تحدث الملك في كلمته أمام البابا عن أن الإيمان لا يمكن أن يكون سببًا في الانغلاق؛ بل هو دافع لاحترام الآخر والعيش بجانبه بسلام.
كما شدد على أن المغرب يضع حماية حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية ضمن ثوابته الكبرى . وجاءت كلمات البابا مؤيدة لهذا التوجه حين قال إن المغرب يمثل نموذجًا عالميًا للتعايش والتفاهم بين أتباع الديانات .
هذا الخط الفكري والديني تعزّز بوضوح من خلال الإصلاحات الدستورية الكبرى التي عرفها المغرب سنة 2011، إذ نصّ الدستور في ديباجته على أن الهوية المغربية الموحدة غنية بتعدد روافدها، ومن ضمنها المكوّن العربي الإسلامي، والأمازيغي، والصحراوي الحساني، والإفريقي، والمتوسطي، والأندلسي، والعبري.
كان إدراج المكون العبري في الدستور تتويجًا لمسارٍ طويل من الاعتراف الرسمي بتراث اليهود المغاربة كجزء أصيل من الذاكرة الوطنية، وتجسيدًا لرؤية سياسية ودينية ترى أن التعدد لا يناقض الوحدة، بل يغنيها ويقوّيها.
كما نصّ الدستور بوضوح على حرية ممارسة الشعائر الدينية لجميع المقيمين فوق التراب المغربي، ما جعل الكنائس والمعابد اليهودية والمساجد تتجاور في سلام، في مشهد نادر في المنطقة العربية.
وفي هذا السياق، جاء إعلان مراكش الصادر سنة 2016 ليشكل مرجعًا فكريًا عالميًا حول حقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي. فقد دعا الإعلان إلى استلهام روح وثيقة المدينة المنورة التي وضعها الرسول ﷺ كأول عقد مدني يضمن التعدد والمواطنة، واعتبر أن حماية غير المسلمين في البلدان الإسلامية ليست منّة، بل التزام شرعي وإنساني.
وقد قاد المغرب هذا الحوار الدولي بصفته نموذجًا واقعيًا لمجتمع يوازن بين الدين والدولة، وبين العقيدة والكرامة الإنسانية .
لقد نجح المغرب، بفضل حكمته التاريخية وعمق مؤسساته الدينية، في صياغة هوية دينية متجددة لا تعرف الانغلاق . فالمذهب المالكي المعتمد في البلاد، بمرونته الفقهية وميله إلى المقاصد الشرعية، أسهم في بناء فكر ديني معتدل، يحترم النص لكنه لا يتجمد فيه، ويوازن بين العقيدة والعقل، وبين الإيمان والإنسان.
كما كان للعقيدة الأشعرية بصمة في هذا البناء الروحي، إذ قامت على الوسطية ونبذ التكفير، فلا تُقصي أحدًا من دائرة الإسلام، مما رسّخ ثقافة التسامح العقائدي داخل المجتمع .
وإلى جانبها، ازدهر التصوف السني الذي جعل من التزكية والتواضع والمحبة طريقًا إلى الله، فكان مدرسةً أخلاقيةً تسهم في تهذيب النفوس وتعزيز الروابط الإنسانية بين الناس.
هذه العناصر الثلاثة — الأشعرية، والتصوف السني، والمالكية — شكّلت معًا العمود الفقري للهوية الدينية المغربية، وأسست لروح التسامح والتعايش التي تميّز المغاربة مع المختلف دينيًا وثقافيًا منذ قرون .
أما مؤسسة إمارة المؤمنين، فهي الضامن لوحدة المرجعية الدينية، ولحرية غير المسلمين في ممارسة عباداتهم، بما يجعل المغرب منارةً في العالم الإسلامي لتجربة “الدين في خدمة الإنسان”، لا “الإنسان في خدمة الدين”.
وفي زمنٍ يعاني فيه العالم من تصاعد خطابات الكراهية والطائفية، يقدم المغرب نموذجًا حيًا في إدارة التعدد الديني والثقافي بروح الحكمة والاعتدال. ففي شوارع الرباط والدار البيضاء وطنجة، تتجاور المساجد والكنائس والمعابد دون خوف أو توتر، وفي المناسبات الدينية الكبرى يتبادل المسلمون واليهود والمسيحيون التهاني والزيارات في مشهدٍ حضاري نادر.
إنّ هذا التعايش لم يكن صدفة؛ بل ثمرة قرونٍ من التاريخ المشترك، ومن سياسةٍ واعية ترى أن حماية الدين لا تنفصل عن حماية الإنسان، وأن الإيمان لا يكتمل إلا بالاحترام المتبادل .
وهكذا، من الأندلس إلى مراكش، ومن فاس إلى روما، يواصل المغرب كتابة فصله الخاص في تاريخ الإنسانية، فصلاً عنوانه التسامح، ومضمونه التوازن بين الأصالة والانفتاح. إنها الهوية المغربية التي لا تخشى التعدد لأنها تستمد قوتها من عمقها، ولا تخاف الحوار لأنها واثقة من جذورها.
هويةٌ علمتنا أن الإيمان الحق لا يولّد الكراهية؛ بل يصنع السلام .
التعليقات