جلال العمرة وجمالية السيرة : تأملات نابعة من الواقع
أذ.أمزضاو إبراهيم
إمام وخطيب و مبتعث سابق من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بفرنسا
باحث في العلوم الشرعية بسلك الدكتوراه
يُعَدُّ السفر إلى بلاد الحرمين الشريفين من أسمى الرحلات التي يتشوّق إليها كل مؤمن في مشارق الأرض ومغاربها، لما تحمله من معانٍ روحيةٍ ساميةٍ تُغذِّي الإيمان، وتُرقِّي الروح، وتُنير الفكر، فتمحو الهموم وتُزيل الأكدار.
وهي رحلةٌ تعبِّر في واقعها العملي عن سيرة النبي العدنان يراها الزائر بعينه، ويعيشها بجنانه، فيغمره شعورٌ بالسكينة والاطمئنان، وتنغمس روحه في عبق الإيمان والريحان.
وبينما كنت في إحدى تنقلاتي الميدانية على أرض الرحاب الطاهرة، رفقة ثلة من المعتمرين الأخيار من الجالية المسلمة بفرنسا الذين أشرف على تأطيرهم، تملكني شعور عميق بالسكينة والهدوء، إذ أحاطت بي الأجواء الروحانية والمشاهد الأثرية التي أعادت إلى ذهني محطات من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأحسست بفيض من الإيمان يلامس قلبي وروحي. ومن رحم هذه اللحظات الملهمة، ولدت لدي فكرة كتابة مقال ينقل تجربتي من أرض صاحب السيرة، جامعاً بين التأملات الروحية والتجارب الميدانية الواقعية، فسميت مقالتي: (جلال العمرة وجمالية السيرة: تأملات نابعة من الواقع). يتجسد جلال العمرة ومكانتها وجمالية السيرة النبوية، في مشهد المعتمرين وهم يطوفون حول الكعبة، قلوبهم متحدة وخشوعهم يفيض، فتبدو تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم حية أمام أعيننا، ويعيش كل مشارك التجربة الروحية عمليًا. كما تتجلّى جمالية السيرة في سلوكهم العملي عند أداء المناسك وبعد الانتهاء منها، ويمكن تفصيل ذلك على عدة مستويات :
– التواضع والصبر : يرى المعتمرون كيف يتحلى كل فرد بالصبر على الزحام، وطول الانتظار، ويقدر قيمة الانتظار والتواضع أمام بيت الله الحرام، ما يعكس صبر النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه مع الناس.
– الرحمة والتسامح : في كل موقف من الطواف أو السعي، يلتزم المعتمرون بالآداب والخلق الحسن، فلا يتدافعون، ولا يسبّبون الأذى للآخرين، ويقدم بعضهم المساعدة لذوي الاحتياجات الخاصة أو كبار السن، مما يعكس قيم الرحمة والتسامح التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم في أمته.
– الانسجام الاجتماعي : يتجسد جمال السيرة في تلاحم المسلمين من مختلف الأعراق واللغات، حيث يلتقون على قلبٍ واحد، متحدين في الهدف، متحدين في الشعور بالخضوع لله، فلا فرق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، وهذا يعكس روح المساواة التي عاشها الصحابة تحت قيادة النبي صلى الله عليه وسلم.
– الخشوع والروحانية : أثناء الطواف والدعاء، تلاحظ الوجوه المضيئة بالخشوع، والأرواح المتوجهة إلى الله بخشية ومحبة، ما يعكس تطبيق تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم في حياة المسلم اليومية، في تجربة روحية عميقة يشعر بها كل مشارك.
– الاقتداء بالسيرة عمليًا : فكل خطوة، وكل دعاء، وكل موقف من التعاون والاحترام المتبادل، يجعل المعتمر يعيش قيم السيرة النبوية في واقع ملموس، فتكون العمرة ليست مجرد شعيرة، بل مدرسة عملية للسلوك النبوي : الصبر، التواضع، الرحمة، التلاحم، والخشوع.
فالحاج أو المعتمر المغربي، من خلال تطبيقه العملي لقيم السيرة النبوية ( قبل أداء المناسك، وأثناءها، وبعدها، ) فهم الرسالة الملكية، والنصيحة المولوية في حسن تمثل السيرة النبوية على أرض الواقع؛ محولًا المبادئ النظرية إلى سلوك عملي يعكس روح الإسلام وتعاليمه السمحة.
ومن خلال تأطيري لرحلات العمرة، لاحظت تزايدًا ملموسًا في إقبال الجالية المسلمة على أداء المناسك، ففي رحلتي الأخيرة التي نحن بصددها بلغ عدد المعتمرين المغاربة 50 شخصًا من جنوب فرنسا، مقابل 20 معتمرًا من جنسيات مسلمة أخرى من نفس المنطقة والمناطق المجاورة.
وليس في شهادتي – والله على ما أقول شهيد – أي تحيز أو تعصب لأبناء وطني كما قد يظنه البعض، فالإسلام بريء من العصبية، بل هي حقيقة موثقة بالأرقام والوثائق التي بين يدي، تعكس الواقع كما هو، وتبرز الحضور النشط والفعّال للمغاربة ضمن الجالية في رحلات العمرة.
وفي هذا الإطار، تتجلى العمرة أيضًا كفرصة فريدة لاكتشاف التاريخ الديني العميق للأمم السابقة والوقوف على المراحل التي مرت بها الرسالات السماوية حتى ختمها الإسلام. ومن أبرز المعالم التي يزورها المعتمرون مقبرة البقيع؛ وشهداء أحد بالمدينة؛ ومسجد الخيف بمنى، على أرض مكة الذي صلّى فيه سبعون نبياً، وجبل النور حيث نزل الوحي، وما بجواره من معرض يُجسّد مسيرة الأنبياء من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم دلالة على وحدة رسالات التوحيد.
ولا تكتمل هذه الرحلة الروحية إلا عند زيارة الروضة الشريفة والصلاة بها؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم ” ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي” {رواه البخاري، رقم: 1196} والسلام على رسول الله وصاحبيه أبو بكر وعمر.
ختاماً؛ لو جلست لأعدد جلال العمرة لما كفاني مقال ولا ثلاثة، ولكن كما يقول المثل: ما لا يُدرك كله لا يُترك كله فلتكن هذه اللمحات مما يعيشه المعتمر دروسًا وعبرًا نستقيها، وتجربةً روحيةً تلهمنا الاقتداء بالسيرة النبوية في حياتنا اليومية، وتجعلنا نعي قيمة الرحلة إلى بيت الله الحرام ونتأمل في جلال العمرة وعظمة ما تحمل من معانٍ إيمانية وروحية واجتماعية.
فاللهم اجعلنا من المهتدين بسيرة نبيك صلى الله عليه وسلم السالكين لمنهجه قولاً وعملاً، ووفّقنا للاقتداء به في حياتنا واجعل أعمالنا مقبولة وذنوبنا مغفورة.
التعليقات