استخدام مصطلح “شرذمة” بين المفهوم القرآني والاستعمال اللغوي
د. صلاح الدين المراكشي
إمام وخطيب ومرشد ديني بالمستشفيات والسجون الفرنسية، ومبتعث سابق من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
يُعَدُّ مصطلح “شرذمة” من الألفاظ القرآنية التي وردت في سياق التقليل من شأن جماعةٍ ما، كما جاء في قول الله تعالى على لسان جنود فرعون في وصفهم لأتباع نبي الله موسى عليه السلام : ﴿إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ (الشعراء: 54).
وهذا الاستخدام يُوحي في هذا السياق بالتقليل من العدد، ويحمل معنى الانتقاص من الجماعة الموصوفة بهذا المصطلح. إلا أن هذا المعنى لهذا المصطلح ليس بالضرورة أن يكون المقصود دائمًا عند استخدام الكلمة في اللغة العربية، إذ قد يختلف مدلولها بحسب السياق الذي ترد فيه.
سمعتُ ذات يوم أحد الدعاة المشهورين بالمشرق وعلى مواقع التواصل الاجتماعي–واليوتيوب؛ مع حفظ مكانته وتقديره؛ – يُحدِّث عن موقف طريف وقع له أثناء زيارة قام بها إلى الهند برفقة مجموعة من الدعاة. عند وصولهم إلى المسجد، قام إمام المسجد بتقديمهم إلى المصلين قائلًا : ” قد جاءنا ضيوف عظام، وإنهم لشرذمة قليلون…”
وبمجرد سماع هذه العبارة، ابتسم الداعية مستغربًا من استخدام الإمام لكلمة “شرذمة”، إذ مما علِقَ في ذهنه أن هذه الكلمة تحمل دلالة سلبية كما وردت في القرآن الكريم عند وصف أتباع موسى عليه السلام.
إلا أن الواقع اللغوي يُشير إلى أن الكلمة تحمل في أصلها معنى “الطائفة” أو “العصبة”، دون أن تكون محملة بدلالة سلبية بالضرورة. وما يؤكد ذلك أن بعض العلماء استخدموا هذا المصطلح في سياقات محايدة أو حتى إيجابية.
على سبيل المثال، قرأتُ في كتاب “البداية والنهاية” للحافظ ابن كثير (ص: 94) استخدامه لكلمة “شرذمة” في غير معنى الانتقاص، بل في سياق المدح، حيث قال في حديثه عن جيش الخليفة الوليد بن عبد الملك في العصر الأموي: “في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه…”
وهنا يتضح أن الكلمة قد تأتي بمعنى: “مجموعة قوية ومؤثرة ”، ولا تحمل دلالة سلبية كما قد يُفهم من السياقات الأخرى.
وعليه؛ يمكننا القول: إن الإمام الهندي – وإن لم يكن مشهورًا كالداعية الذي روى القصة – إلا انه قد استخدم الكلمة في معناها الصحيح، وهي هنا تعني: “مجموعة” أو “طائفة”، دون أن يكون قصده التقليل من شأن الضيوف. بل قد يكون أراد بها الإشارة إلى أنهم قلة عددية، لكن لهم شأن عظيم.
وهذا الموقف يُذكِّرنا بحقيقة علمية ثابتة، وهي أن الفهم اللغوي يجب أن يكون دقيقًا ومتجردًا، دون الاقتصار على المعاني الشائعة في بعض السياقات دون غيرها.
إن اللغة العربية بحر واسع من المعاني والتراكيب والألفاظ المشتركة: كالأُمَّة والعين واللمس …الخ وقد تحمل الكلمة الواحدة معانيَ مختلفة بحسب السياق الذي ترد فيه.
وهذا يدعونا إلى التروي والتدقيق في الفهم قبل الحكم على العبارات، وإلى التواضع العلمي في التعامل مع المصطلحات، فقد يحفظ الإنسان أشياء، ويعلَم أشياء وتغيب عنه أشياء أخرى، قال الله تعالى :﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: 76).
ولله در القائل:
فَقُلْ لِمَن يَدَّعِي فِي العِلْمِ فَلسَفَةً
حَفِظْتَ شَيْئًا وَغَابَتْ عَنكَ أَشْيَاء
التعليقات