29 أكتوبر 2025 / 11:47

الدبلوماسية الدينية ممارسة نبوية أصيلة نستهدي بها في التواصل مع الآخر

ذ. محمد المهدي اقرابش

عضو أكاديمية نيم ومنتدى الإسلام بفرنسا

إمام خطيب ومرشد ديني في المستشفيات

 

لقد أسس النبي صلى الله عليه وسلم للدبلوماسية الدينية في العلاقات بين الأفراد والشعوب والدول والأمم. فالقرآن الكريم وسيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يدعوان الى الحوار مع الآخر المختلف ديانة او ثقافة للتعريف بالإسلام والدعوة إليه. أوبناء علاقات صحية وغير معادية. ولا أدل على ذلك من الآيات العديدة والأحاديث المتظافرة التي تدعونا إلى الحوار واللقاء مع الآخر قصد التعارف وبناء علاقات احترام و تعاون وأخوة إنسانية . ولا تعني هذه اللقاءات وهذا التعارف الانسلاخ من هويتنا وشخصيتنا الدينية ومبادئنا. أو المداهنة والمداراة كما يظن بعض المتوهمين ومن غابت عنه حكمة التواصل مع الآخر المخالف في العقيدة والدين.

يكفينا ان نستدل بقول الله تعالى “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن” الآية 125 سورة النحل. وقوله تعالى “ولا تجادلوا اهل الكتاب إلا بالتي هي احسن” الآية 46 سورة العنكبوت. والمقام لا يتسع لذكر الايات الكثيرة و التي تحث صراحة أو ضمنا على التعارف والتواصل مع الآخر. أما في السنة المطهرة، فإني أشير إلى استقبال النبي صلى الله عليه لوفد نجران النصراني وإكرامهم بالسماح لهم بأداء صلاتهم وفق دينهم في مسجده. وذلك لحكمة رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان صلى الله عليه وسلم يَصِلُ ويزور جاره اليهودي ويعامل المسلمين و غير المسلمين بالدينار والدرهم. بل ويقترض من يهودي وغيره مع العلم أن في الصحابة الأغنياء و الذين يسعدون بوضع كل ماتحت أيديهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة بها نفوسهم.

فيالله! ما أروع هذا الخلق النبوي الكريم!وأكرم بنبي ورسول هو النموذج الأغر والقدوة المثلى في شؤون الحياة كلها!

ورحم الله الإمام البوصيري حين قال في الدرة اليتيمة في مدح خير البرية- البردة:

أكرم بنبي زانه خلق بالحسن مشتمل بالبشر متسم.

ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال :

يا من له الأخلاق ما تهوى العلا منها ومايتعشق الكبراء

زانتك في الخلق العظيم شمائل يغرى بهن ويولع الكرماء

فإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الأنواء

وإذا عفوت فقادرا ومقدرا لا يستهين بعفوك الجهلاء

وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء.

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هينا لينا كريما على مستوى علاقاته مع الأفراد والجماعات. وكان صلى الله عليه وسلم موادعا وواصلا ناصحا على مستوى علاقاته بالملوك ورؤساءالقوم. فقد ذكر الإمام محمد بن طولون الدمشقي في كتابه إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث برسائله مبشرا وميسرا ومرغبا لا منفرا ولا معسرا. فبعث معاذا وأباموسى الأشعري رضي الله عنهما إلى اليمن، وعمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه إلى النجاشي ملك الحبشة، ودحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه إلى قيصر ملك الروم، و عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه إلى كسرى ملك فارس فمزق هذا الأخير كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمزق ملكه بسبب كبره وتجبره وتعنته. وبعث حاطب بن أبي بلتعة اللخمي رضي الله عنه إلى المقوقس ملك الإسكندرية ومصر، و عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى ملكي عمان جيفر وعبد ابني الجامدين الأزديين، و سَليط بن عمرو العامري رضي الله عنه إلى اليمامة إلى هوذة بن علي الحنفي، وبعث شجاع بن وهب الأسدي رضي الله عنه إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك البلقاء من أرض الشام وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي رضي الله عنه إلى الحارث الحميري في اليمن، والعلاء الحضرمي رضي الله عنه إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين وغيره.

وصدق الله العظيم إذ يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ” الآية 21 سورة الأحزاب.

إن الآخر قد يجهل ماعندنا من قيم ومثل. ولا يعرفنا بما فيه الكفاية. بل قد يكون ضحية لصورة نمطية عن المسلمين والإسلام فيظن أن المسلمين لايتعايشون ولايقبلون الآخر. إنها صورة نمطية كرستها بعض وسائل الاعلام لغرض التفرقة والعنصرية . وقد تكون بسبب بعض التصرفات والسلوكات السيئة الصادرة من بعض المسلمين. وهي فئة قليلة مستعملة كأداة من حيث تدري أو لا تدري لتنغص على الناس حياتهم، وتفسدها كما يفسد الخل العسل.

إن الدبلوماسية الدينية تكون على مستويين اثنين أحدهما رسمي ومؤسساتي والآخر شخصي و فردي.

فأما على المستوى الرسمي والمؤسساتي فإني أذكر كمثال ساطع ومشرق امير المومنين محمد السادس حفظه الله الذي استقبل في عام 2019 ميلادية ، البابا فرنسيس في بلدنا المغرب.

استقبله بصفته اميرا للمومنين وحاميا للملة والدين وسليل العترة النبوية الشريفة فألقى كلمته الشهيرة في مدينة الرباط بلغات عدة يدعو فيها إلى السلام والأخوة الانسانية ونبذ العنف والعنصرية والحروب فسار بذلك على نهج وسنة والده أمير المؤمنين جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله. كان امير المومنين الحسن الثاني رحمه الله سباقا برؤيته الحكيمة إلى استقبال البابا يوحنا الثاني عام 1985 في المغرب وذلك بعد ان كان قد حل عليه ضيفا في الفاتيكان عام 1980 ميلادية.

وفي عام 2000 ميلادية نزل أمير المؤمنين محمد السادس حفظه الله ضيفا على البابا يوحنا الثاني الحبر الأعظم عند الكاثوليكية وكبير ورأس التسلسل الهرمي الأسقفي. فكانت زيارتهما واستقبالهما له سبقا في الأمة العربية والإسلامية في واقعنا المعاصر وقد قيل إن الفضل لمن سبق. إن العلاقات بين البلدين قديمة ولا أدل على ذلك من الرسائل المتبادلة عبر قرون بين حاضرة الفاتيكان وأمراء المؤمنين سلاطين المملكة المغربية الشريفة بدءا من عهد المرابطين إلى عصرنا الحاضر. ولا ننسى أن ننوه بمؤسسة أخرى رائدة في حوار الأديان والثقافات ألا وهي مؤسسة الأزهر الشريف التي شَرُفَتْ بمشيخة الإمام أحمد الطيب وشَرُفَ بها فسطع نجمه وعلا كعبه في التقريب بين الثقافات والحضارات والشعوب وقد شهد له الناس بسعيه للخير والفضل وتحقيق السلم والسلام فعزز بهذا للأزهر الشريف اعتباره ومكانته.

أما على المستوى الفردي والشخصيّ المتواضع ، فقد عشت تجارب في موضوع حوار الأديان والثقافات. فكانت مفيدة ونافعة بحق.إذ تعرفت على ممثلين وأتباع ديانات وملل أخرى كالمسيحية واليهودية والبوذية وغيرها. فتم التواصل والتثاقف والاحتكاك الحضاري. ومن بين اللقاءات الرسمية التي شاركت فيها كان في عام 2007 ميلادية بمناسبة تسمية الامم المتحدة لهذا العام بعام اللاعنف. فكانت مناسبة للتأكيد على سماحة الإسلام ورفض العدوان بجميع أنواعه. وقد أجمع ذوو النيات الحسنة والضمائرالحية على رفض تلك الصور المقيتة التي يروجها بعض المخدوعين والمغرر بهم او المرتزقة الذين يدمرون القيم الإنسانية والدينية لأجل مكاسب رخيصة. وبعدها توالت اللقاءات والندوات والمحاضرات في أمريكا و أوروبا والضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط. فدخلنا البيع والكنائس ودخلوا مساجدنا وتم التواصل البناء وشجع اصحاب االقرار السياسي والمثقفون والمفكرون والبسطاء من الناس هذا التقارب الاخوي الانساني لأنه ينم عن الفطرة وطبيعة الاشياء. فلا مجال للكلل ولا للملل ولا للأحباط رغم صعوبة وضع الإنسانية في واقعنا المعاصر.

وكان أن وفقنا الله لتأسيس الجامعة الشعبية للأديان بمدينة نيم يدعى إليها العموم للاستفادة من دروس نلقيها أنا وزملائي فيها. فاضطلعت بمهمة إلقاء محاضرات حول مبادئ وأساسيات الإسلام والثقافة العربية وفكر ابن رشد الحفيد. وأخذ أستاذ آخر على عاتقه شرح الديانة اليهودية وتبسيطها وبسط فكر ابن ميمون اليهودي. وآخر تكفل بشرح لاهوتية وفكر القديس الحكيم توما الإكويني وزملاء آخرون كل في مجاله واختصاصه.

ولا أزال اذكر لقائي مع الكرادلة وحضوري بدعوة كريمة من الكاردينال يوحنا مارك أڤولين ،أسقف مدينة مارسيليا، للحضور في مجلس البابا الراحل فرنسيس عام 2023 ميلادية في مارسيليا.

تمت استضافتنا فيه فألقى البابا فرانسيس خطابه فأدان فيه الحروب والظلم. و دافع فيه عن المهاجرين الذين يموت بعضهم غرقا في البحر الأبيض المتوسط . وحمل الأوروبيين مسؤولية مساعدة هؤلاء المهاجرين وإغاثتهم والعمل على إعانتهم باسم الدين والإنسانية. وشبه المنارة على شاطئ البحر بالمصباح الذي يهتدي به التائهون والمرفأ بمرفأ السلام، والبحر بالحاضن و المشترك في ما بيننا سكان حوض البحر الأبيض المتوسط، مُشَكِّلَةً بذلك فسيفساء من الأديان والثقافات والحضارات. كان تواصلنا جيدا والانسجام باديا صحبة كرادلة جاؤوا من مختلف البلدان. وكل يحترم ويقدر الآخر. والأجمل أنه كان معنا طلبة وشباب من طوائف شتى اجتمعوا واشتغلوا حول مواضيع السلام والتعايش والحوار مع الآخر كيف ماكان دينه أو جنسه أو لونه أو عرقه.

قال الله تعالى: “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين, إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم” الآية 118 سورة هود.

وقال جل وعلا ” ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين” الآية 22 سورة الروم.

وقال جل شأنه” إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد” الآية 17 سورة الحج.