28 أكتوبر 2025 / 12:51

المستوفى في إحياء ذكرى مرور خمسة عشر قرنا على ميلاد المصطفى: قراءة في الرسالة المولوية

محمد أكعبور ـ مرشد ديني بالصويرة، باحث في الخطاب والإعلام الديني
لقد دأب الملوك والسلاطين؛ أمراء المؤمنين ببلد إمارة المؤمنين؛ المملكة المغربية الشريفة على مخاطبة الأمة المغربية على مر الدوام في كل مناسبة يقتضي سياقها استصدار رسائل ملكية مفعمة بتوجيهات للعامة كما الخاصة.

وقد سجل التاريخ الديني المغربي محطات من ذلكم، تشهد لما قلنا حتى عرفت بعض تلك الرسائل بـــــ” برسائل القرن”؛ من ذلكم رسالة السلطان العالم سيدي محمد بن عبد الله، مما جاء في متمها ” فمن وفقه الله للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رشد واهتدى، ومن حاد عن سبيله فقد غوى واعتدى، فإنه عليه السلام تركنا على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا شقي. وليجعل أموره كلها جارية على الكتاب والسنة ويسأل العلماء عما لم يعلم،”[1] كما يمكن الاستئناس بهذا الصدد بــــ” الخطاب الملكي في المجلس العلمي الأعلى[2] “الذي وجهه جلالة الملك الحسن الثاني رحمة الله عليه للعلماء.

هذا وقد وجه كذلك” جلالة الملك أمير المؤمنين الحسن الثاني، كما هو معلوم –رسالة سامية إلى الأمة الإسلامية مطلع القرن الخامس عشر الهجري”[3] اخترت مقطعا من تلكم الرسالة الحسنية؛ رسالة القرن؛ لما لهذا المقطع من ارتباط بالسياق المحمدي في التذكير بإحياء ذكرى مرور خمسة عشر قرنا على ميلاد المصطفى عبر رسالة لعلماء الأمة ونَسمها بـــــــ “رسالة القرن”؛ و”التي تلاها بالرباط يوم الاثنين 22 ربيع الأول 1447هـ الموافق لـ 15 سبتمبر 2025م، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد أحمد التوفيق “.

يقول جلالة الملك الحسن رحمه الله “وتجديدا لتقليد شريف متعارف عليه منذ عهد أجدادنا المنعمين، ملوك المغرب الميامين، كلما انتهى قرن، وبزغ فجر قرن جديد، رأينا من الواجب علينا، بصفتنا قائدا من قادة المسلمين وأميرا من أمراء المؤمنين، أن نتوجه في هذه المناسبة التاريخية الفريدة بالنصح الخالص والإرشاد، إلى أبنائنا الأوفياء في هذه البلاد، وإلى إخواننا المؤمنين الأعزاء في بقية البلاد……….. إن من مِنن الله على خلقه ورحمته بهم أن بعث فيهم سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه برسالة إلهية هي خاتمة الرسالات، تهديهم إلى محجة الصواب وتفتح لهم من وجوه الخير والبر كل باب، فأدى الرسالة، وبلغ الأمانة، وترك من بعده كتابا محكم الآيات، من تمسك به لم يضل، وسنة وثيقة الأسانيد والروايات، من اقتفى أثرها لم يزل. واقتضت حكمة الله أن يضع على عاتق خلفاء المسلمين وأمرائهم أمانة خلافته في الأرض فجعل بذلك على رأس مهامهم مسؤولية الذود عن الشريعة والحفاظ على الدين وحماية المجتمع الإسلامي من كل زيغ أو ضلال مبين. وقد امتاز المغرب الإسلامي بتعاقب ملوك بررة جعلوا الحفاظ على الإسلام والدفاع عنه فيما وراء البحار، ونشره فيما جاوره من الأقطار مهمتهم الأولى، وتثبيت تعاليمه في النفوس غايتهم المثلى، ومن بينهم ملوك شرفاء من آل البيت الكرام، في طليعتهم أسلافنا الملوك العلويون المنعمون في دار السلام.”[4]

وإن الرسالة المحمدية لعلماء الأمة لتأتي في سياق ترشيد الخطاب الديني عبر مشروع خطة تسديد التبليغ الرامي بلوغ كمالات الدين وتحقيق مآلات التدين الرشيد الممثلة في الأثر الذي يخلفه لدى كل فرد من أفراد الأسرة المغربية حتى ينعموا بحياة طيبة مليئة بالأفرح والسرور متقاة كثيرا من الأهواء والشرور عبر المواكبة الدينية المستمرة علميا وإعلاميا من لدن المؤسسات الفاعلة في الحقل الديني مما يحقق جودة التأطير الديني الذي يتأتى معه التأثير الإيجابي في المحيط الديني الوطني ضمن مسعى محقَّقات التدين الجامع المستند إلى منظومة الثوابت الدينية والوطنية .

تتضمن الرسالة المولوية هذه عشرة محاور متخللة بتوجيهات سامية سديدة ترسم معالم بيداغوجيا الخطاب الديني في سياق مشروع خطة تسديد التبليغ، موشومة بشهادة مولوية للأمة المغربية حيث ورد في الملفوظ المولوي ” وهم جميعا على المحبة الأكيدة الصادقة للجناب النبوي المنيف”[5] فأمير المؤمنين شهد بهذه الخيرية لأمته وهي شهادة افتخار واعتزاز مؤرخة وموقعة باسم جلالته.

بعد هذا التمهيد إذن، سأعرض عليكم أيها القراء الأعزاء قراءة لهذه الرسالة من خلال هذه الملامح:
1_ الملمح العقدي: خاطب الله عز وجل رسوله المبعوث للعالمين فقال سبحانه “فاعلم أن لا إله إلا الله” لأن التوحيد أسا العبادة ” وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدوني “.
وفي الرسالة الملكية يحضر هذا الملمح من خلال ” التركيز على أن أعظم ما جاء به صلى الله عليه وسلم، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، هو دين التوحيد،”[6] فالتوحيد؛ أصول العقيدة والمغاربة اختاروا العقيدة الأشعرية واعتبروها مدار قولهم موحدين “لا إله إلا الله محمد رسول الله “.

2_ الملمح الأخلاقي: لقد تقرر في الوحي وصف النبي العدنان بالخلق العظيم، فقال المولى عز وجل: “وإنك لعلى خلق عظيم” وإن مدار الدين؛ التوحيد المجلى في الخُلق، فالتوحيد يحرر الآدميين من هوى النفس وزيغ الشيطان ليقوي فيهم وازع الإيمان من خلال ما يدعو إليه الحديث والقرءان.

فمبنى الخلق الحسن؛ الاقتداء الذي يعقبه الاهتداء بالنبي المصطفى بيانا من العلماء ومن أُذن له في التبليغ فـــــــ” هذا الإحياء مناسبة سانحة للعلماء لكي يُبيِّنوا للناس أن الترجمة الأخلاقية للتوحيد، في عصرنا، والتي يمكن أن يفهمها الجميع، هي تربية الأجيال على التحرر في حياتهم الفردية والجماعية من الأنانية؛ “[7]

إن من شأن هذا التحرر أن ينقذ أبناء هذه الأمة؛ الشباب منهم خاصة من التغرر الذي تتعرض له هذه الفئة من مجتمعنا باستمرار وفي صور ومشاهد وأساليب متنوعة.

3_الملمح السياسي: إن من حكمة الله تعالى أن اقتضى بهذه الأرض استرعاء شؤونها في الدنيا والدين أسرا حاكمة من السلالة النبوية بـــــــ” أن جعل إمامة هذا البلد من ذريته صلى الله عليه وسلم، حافظة لعهده، جارية على سُنَنِه، خادمة وحامية لما نزل عليه من الهدي “.[8]

على هذا الامر يتأسس حماية الدين وسياسة الدنيا به، قال العلامة الماوردي: “الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا”.

4_الملمح العمراني: منذ أن عرف المغرب تنظيم أمور الدولة في عهد الأدارسة حتى العلويين الأشراف توالت مقاصد مفهوم البيعة المقتضي وجود إمارة المؤمنين المؤتمنة على حماية الملة والدين فتأكد الأمر في الادبيات السياسية وتحقق وفق التشريعات الحديثة والمعاصرة، فأمير المؤمنين بالمغرب مُؤمًّن دستوريا في الفصل 41 من دستور المملكة 2011” مقام وراثة إمارة المؤمنين، الأمر الذي أهّلنا للحرص على توفير الشروط المثلى لأفراد أمتنا حتى يقوموا بكل ما يرضي الله من رعاية شؤون الدين “[9]،لأن دور الإمارة هو العمارة الحسية والمعنوية؛ لما يتحقق بهما من صلاح المعاش واتقاء شرور المعاد .

5_الملمح الصوفي: من خصائص الخطاب الديني بالمغرب؛ كونه خطابا صوفيا تربويا متأسسا على التخلي مستمسكا بالتحلي والامتثال اللذان يعقبان الاستجابة، ولذلكم فإن مما ينبغي العمل وفقه” التذكير بما برّز فيه المغاربة من العناية بثانية أمانات الرسول الأعظم وهي التزكية، وذلك من خلال ما نبت في أرض المغرب عبر العصور من مؤسسات التربية الروحية المسماة بطرق التصوف، ومعلوم أن الجوهر الذي تقوم عليه تربيتها هو محبة الرسول الذي تنتهي إليه أسانيد هذه الطرق “[10].

لذلكم فإن من وظائف هذه المؤسسة إلى جنب مؤسسة المسجد والجامع؛ التأطير الديني والروحي مما يضمن استمرار وغرس قيم الأمن المعنوي للمغاربة في نفوسهم وهم على قلب رجل واحد في الأداءات الدينية.
إن محبة المغاربة للجناب النبوي؛ محبة تشرع لا محبة تشيع، أي كونهم يحبون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حب التعبد والاقتداء لما تحققه لهم من اهتداء.

6_الملمح التربوي: من مستلزمات التبليغ؛ التواصل الديني مع عموم المواطنين من فئات عمرية في المناسبات والتدخلات وعبر كراسي ومنابر ومنصات وذلك حتى يتحقق” تعريف عموم الناس بما أجاد فيه المغاربة من صياغة غرر المديح النبوي تعبيرا عن تمجيد الرسول الأكرم في المجالس الخاصة والعامة “[11].

ففي تلكم المجالس حيث تتلى الأذكار والصلوات على النبي المختار، يتعلم الحضور والتأدب في الحضرة النبوية بما يملؤ فؤاد المرء من مقومات روحية ووجدانية ويقال مثل ذلكم في المجالس الرقمية.

هذا ولقد كان من عادة المغاربة ختم مجالسهم بالذكر والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم والدعاء الصالح لّأمير المؤمنين ولأسرته الملكية الشريفة وهو مؤشر على الوطنية الصادقة الممتزجة بالقيم الدينية المترجمة في الملفوظ المحفوظ: “حب الوطن من الإيمان” ويروى على لسان أهلنا في الصحراء المغربية هذا الدعاء باللسان الدارج ” الله ينصر السلطان ويهدن الأوطان “.

7_الملمح الحضاري والعلمي: للمغاربة سيط كبير في التأليف والتصنيف في بديع الصلوات على خير البرية، ومما تتغياه هذه الرسالة السامية” إظهار ما برز فيه المغاربة من صياغة الصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم “[12] المقطع؛ دعوة كريمة للعلماء للبحث الأكاديمي في تحقيق وتخريج ما تزخر به الخزانة المغربية بهذا النوع من الكتابات وقد يكون مرويا على الألسن يتلى في المناسبات الاجتماعية وغيرها بمختلف اللهجات المغربية، جمعه وتحقيقه قيمة مضافة وتعبير كبير من المغاربة على حب الجناب النبوي.

8_ الملمح البيداغوجي: مما هو محقق أن تبليغ أي خطاب يمر من قناة بيداغوجية تستثمر سبلا ووسائل عبر مؤسسات فاعلة في التخاطب الديني والتربوي التعليمي، وفي الرسالة الملكية يرد توجيه بيداغوجي وذلك بــــــ” أن تقوم المجالس العلمية بإقامة مجالس حافلة للصلاة على النبي، مجالس يحضرها القيمون الدينيون وطوائف الذاكرين وعموم الناس وأن يصحب هذه الصلوات التوجه إلى الله تعالى بنية طلبه سبحانه بأن يديم أمنه وأفضاله على بلدنا وأن يمتع شخصنا وأسرتنا بالصحة والعافية التامة وحسن الختام. “[13]

9_ الملمح الوطني والإنساني: إن من مكرمات إمارة المؤمنين أن يمتد نفعها لخارج الوطن في رعاية لرعاياها بديار المهجر ولمن أدرك بركتها وناله خيرها مما يحمله العلماء الأفارقة المنضوون تحتها وفاء لحقها في رعاية الدين بهذه الديار، لذلكم فمن التوجيه المولوي لمؤسسة العلماء ببلادنا ” أن تشركوا في فعاليات إحيائكم هذا وبرامجه رعايانا المغاربة في الخارج، وذلك عبر المجلس العلمي المغربي لأوروبا وغيره من المؤسسات، وعلى نفس المنوال عليكم أن تشركوا إخواننا في البلدان الإفريقية، ولاسيما عبر “مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة”. “[14]

فاللهم انصر أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس واحفظه في ولي عهده وأسرته الكريمة ببركة اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] www.attawabit.ma
[2]الملك العالم يخاطب العلماء خليفة المحفوظي العدد 255 جمادى 2 1406-مارس 1986 www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/6598
[3] رسالة القرن: الحسن الثاني www.habous.gov.ma
[4] رسالة القرن: الحسن الثاني www.habous.gov.ma
[5]مقتطف من الرسالة الملكية السامية إلى المجلس العلمي الأعلى بشأن إحياء ذكرى مرور خمسة عشر قرنا على ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم.
المرجع ذاته
[6] المرجع ذاته
[7] المرجع ذاته
[8] المرجع ذاته
[9] المرجع ذاته
[10] المرجع ذاته
[11] المرجع ذاته
[12] المرجع ذاته
[13] المرجع ذاته
[14] المرجع ذاته