27 أكتوبر 2025 / 15:08

حوار الأديان والثقافات من خلال توحيد الخالق وعدم الإضرار بالخلق

محمد المهدي اقرابش

أكاديمي وإمام خطيب ومرشد ديني في المستشفيات

عضو منتدى الإسلام بفرنسا

 

إن حوار الأديان والثقافات والحضارات ضرورة دينية وإنسانية لبناء مجتمعات سلمية على جميع المستويات، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. نريد مجتمعات مبنية على المودة والرحمة والتسامح والسلام.

والقرآن الكريم يدعونا صراحة إلى الحوار مع الآخر بالتي هي أحسن. قال الله تعالى: “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن” الآية 125 سورة النحل الآية ويقول سبحانه وتعالى: “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن” الآية 46 سورة العنكبوت. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاور المشركين ومناوئيه ويقول لهم داعيا إياهم إلى التوحيد “أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا” ابن سعد في الطبقات الكبرى.

فالتوحيد هو الذي يحرر الإنسان من العبودية للبشر والمادية والشهوانية المفرطة والربح السريع الذي لا يرقب في الأخلاق والقيم إلا ولا ذمة.

تشكو البشرية اليوم آلاما وأحزانا. إذ نجد خلقا كثيرا من الناس يتعاطون الأدوية المهدئة وأحيانا المخدرات والكحول للتغلب على القلق الوجودي والفراغ الروحي رغم الرفاه الاجتماعي والمادي. وليس لنا إلا أن ننظر إلى نسبة الأدوية المستهلكة ضد الاكتئاب في المجتمعات المتقدمة والغنية والتي أهملت العناية بالجانب الروحي للإنسان !

ولعمري إني لأفهم الآن قول الله تعالى “ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى” الآية 124 سورة طه.

إن حوار الاديان والثقافات الصادق يسعى إلى تحقيق السلام النفسي والمجتمعي والاطمئنان على مصيرنا ومصير الأجيال القادمة. ولكن للأسف لا تزال المجاعات والأوبئة والحروب الطاحنة تأتي على الأخضر واليابس فلا تبقي ولا تذر. تقتل أطفالا وشيوخا، رجالا ونساء، ولا تميز بين أحد في هذه العالم الذي صار غير آمن.

لقد بلغ الإنسان مراحل متقدمة في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. ولكنه لم يحسن استعمال هذه النعم في خير البشرية بل إنه سعى إلى امتلاك واستخدام الأسلحة الفتاكة الكيماوية والبيولوجية وغيرها، ناهيك عن السلاح النووي الذي يستطيع ان يدمر كوكب الأرض عدة مرات. قال المفكر الفرنسي غابلي Rabelais: “علم بلا ضمير هو حقل من خراب”.

إن العالم يألم بسبب الأزمات الاقتصادية العاصفة منذ سنة 2008 وقد تفاقمت هذه الأزمات مع كورونا. فصار الاقتصاد ليبراليا رأسماليا ماليا متطرفا يسعى إلى الربح فقط معتمدا على مضاربات مالية ومعاملات ربوية فاحشة. فلا تهدف هذه المعاملات في الحقيقة إلى خدمة ملموسة وحقيقية للمجتمعات والإنسان بل إنها تنفلت وتخرج عن السيطرة.

فهي تعتمد على الإنتاج والاستهلاك بدون حد . إنها شهوة التملك والاستهلاك لا تشبع أبدا ولايملأ جوف ابن آدم إلا التراب! فمثل من عصفت به هذه الشهوة كمثل من يشرب من ماء البحر فلايروي ظمأ ولا يذهب عطشا أو سيزيف الأسطورة الذي ينوء بالصخرة التي يحملها على ظهره ويصعد بها إلى الجبل. ولكن الصخرة تسقط قبل وصوله إلى القمة فيعيد الكرة بعد الكرة وهكذا بلانهاية ولا توقف.

لقد ألف الحائز على جائزة النوبل في الاقتصاد، الأمريكي جوزيف ستيكليتز والذي يحمل عنوان: “حينما تفقد الرأسمالية رشدها”.

Quand le capitalisme perd la tête

 

هنا تكمن أهمية الحوار بين ممثلي الأديان والثقافات لدعوة الجميع إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة في المعاملات الاقتصادية والاجتماعية والمالية. وهنا يتجلى تفوق الإسلام الذي يدعو إلى تقنين وتنظيم وإعطاء زكاة المال لمستحقيها الثمانية الذين وردوا في الآية الستين من سورة التوبة. فالهدف من خلال مؤسسة الزكاة هو التوزيع العادل للثروات والخيرات. قال الله تعالى “كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم”. الآية 7 سورة الحشر.

لا شك في أن المبادرة الحرة والاقتصاد الحر يحفزان الهمم ويشجعان على الإبداع والابتكار والانتاج. ولكن هناك أخلاقيات لا ينبغي تجاوزها. وهو توفير العدالة والحماية الاجتماعية للمجتمع برمته بضعفائه وفقرائه.و لا ينبغي ان تكون العولمة الاقتصادية على حساب الاقتصاد المحلي التكافلي والتعاوني والبيئي.

صار خبراء اقتصاديون يدقون ناقوس الخطر ويطالبون بالحماية الجمركية وتشجيع الصناعة المحلية أو على الأقل التوازن بين الاقتصاد الداخلي والعولمة الاقتصادية.

وما كان آدم سميت صاحب الليبرالية ونظرية اليد الخفية في السوق ليصدق ما نراه اليوم من ظلم واحتكار وفوارق طبقية هائلة بين شرائح وطبقات المجتمعات .

إن تراثنا مليء بنماذج رائعة في مجال الاقتصاد التكافلي والتضامني. هلا استعدنا مثلا تقاليد التويزة والمقايضة والوزيعة ودارت والعباسية والوقف ودار الضمانة والتعاونية والتضامن الاقتصادي المحلي والبيئي الخ…

سقط حائط برلين سنة 1989 وبشر فرنسيسكو فوكوياما بنهاية التاريخ وبانتصار الديمقراطية والقيم الإنسانية وانتشار الرخاء والرفاه والحريات. ولكن ما رأيناه كان هو العكس تماما. فلقد اسْتُعْمِرَتْ بلدان ودُمِّرَت اوطان وتم الاعتماد على نظرية عراب صراع الحضارات صمويل هنتغتون. حلت السيدة مونيك قيصيدا القنصل العام للولايات المتحدة الأمريكية في مارسيليا ضيفة في بيتي عام 2017 ميلادية، وقد كان حديثنا آنذاك حول حوار الأديان ودعوتي إلى أمريكا في إطار برنامج دولي يسمى ببرنامج الزائرين القياديين الدوليين (IVLP)للتعرف،طيلة ثلاثة أسابيع، على المجتمع الأمريكي ومؤسساته.

فذكرت في ثنايا حديثنا حال العراق فقالت: “لقد كان غزو امريكا للعراق كارثة “. وقد صدقت ولكن بعد أن سبق السيف العذل ووقع الفأس على الرأس!

إن تدمير هذه البلدان أدى إلى خلق حركات ارهابية دموية تدعي الاسلام مبررة إجرامها في حق البلاد والعباد. والإسلام من أفعالها براء براءة الذئب من دم يوسف.

ولطالما أكدت هذه الحقيقة في لقاءاتي مع ممثلي ومؤمني الأديان والثقافات الأخرى طوال عقدين من الزمن.

ولا أزال أذكر المحادثات التي كانت بيني وبين مدير شعبة العلوم اللاهوتية وحوار الأديان في جامعة هارفارد ببوسطن حين ذكر الدور المحوري لحوار الأديان والثقافات في نشر السلام والقيم الإنسانية والدينية. بل إن الساسة الأمريكين يدعون إلى هذا ويخصصون ميزانيات كبيرة لتشجيع الحوار الديني والثقافي وتلميع صورة أمريكا لدى الرأي العام الدولي وفي جميع المجتمعات. وصنيعها هو شيء طبيعي. فكل دولة تسعى للرفع من قيمتها الرمزية والاعتبارية لدى شعوب الأرض. وفي السياق نفسه يؤكد أصحاب القرار في أوروبا على ضرورة حوار الاديان والثقافات للحفاظ على التماسك المجتمعي والإخاء على أرضية المواطنة.

ولقد سبق أن التقيت في هذا الصدد بمسؤولين حكوميين ورسميين فرنسيين، وزراء وموظفين، وذلك في إطار مؤسسة الحوار مع الإسلام في فرنسا في عهد وزير الداخلية برنارد كازنوف. أو منتدى الإسلام في فرنسا في عهد وزيري الداخلية جيرالد دارمانان وبرونو غوتاييو، فذكروا جميعهم أنه من العقل والحكمة وحسن التدبير والسياسة التعاون والحوار بين الأديان والثقافات للتعايش والإخاء بدل التراشق والتنازع والكراهية. ولكن العداء ضد المسلمين في بعض الأوساط في أوروبا وتنامي اليمين الشعبوي والمتطرف يعيقان هذا الحوار و يحولان دون تعايش مسالم و تام ومواطن.

فهناك وسائل إعلام قد سخرت جهودها لإذكاء نار الفرقة والتمييز والعنصرية. ومع هذا فهناك الأخيار والمنصفون والإنسانييون من الأديان والثقافات الأخرى الذين يناضلون ويحرصون على قيم الأخوة والصداقة والاحترام والتسامح.

لا يفتر كثير من الناس عن ترداد مقولة “حب الأوطان من الإيمان” و هذه العبارة موجودة في كل الثقافات والأديان. ولكن شتان ما بين القول والواقع خاصة في بلداننا العربية والإسلامية فقد دمر ما يسمى بالربيع العربي بلدانا وضيع شعوبا. ولعمري إنه لشتاء جليدي قارس نشعر بآلامه وأتراحه ونتائجه الكارثية على الأمة العربية والإسلامية. إن التغيير لا يكون إلا بالحوار وبالتي هي أحسن ودون تضييع المكتسبات التي حققها أبناء الأمة. ونعم فإن الظلم قد يلحق بشعوب ولكن الكياسة والفطانة والحكمة في التغيير مطلوبة من الجميع والتغيير يمكن أن يكون بعقد اجتماعي متجدد متوافق عليه بين أطياف المجتمع ومحترم للشرعية بمختلف أشكالها وأنواعها (دينية تاريخية وثقافية) وحسب ظروف وثقافة كل بلد. إذ ليس هناك وصفة واحدة جاهزة لكل البلدان.

إن فقه المآلات والمقاصد مطلوب شرعا وقانونا وسياسة في مثل هذه الأمور العامة ولا مجال للسوداوية واليأس وتثبيط الهمم وإحباط الأمل. وسؤال لا يكف عن الإلحاح والإصرار وهو : كيف يكون الحوار مع الآخر ناجعا وناجحا ان فشلنا في الحوار فيما بيننا نحن معاشر المسلمين سنة وشيعة، مذاهب وفرقا واختيارات؟!وكيف يليق ببلد مسلم أن يدبر لتفتيت وتقسيم جاره البلد المسلم؟!. لا نجد تعبيرا أصدق من قول الإمام علي رضي الله عنه:”إخواننا بغوا علينا “. هدى الله الجميع لتحقيق الأخوة التي لا تنفصم ولا تنقطع إلى يوم الدين.

إن مرتكز حوارنا مع الأديان والثقافات والحضارات هو التوحيد وعدم الإضرار بالخلق.

فالتوحيد جاء لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الاخرة.

جاء ليضع الإصر والأغلال التي كانت على البشرية.

إن الحوار مع الاخر هدفه هو تبيان خطورة الاحتراب وتقسيم المجتمعات. لنؤسس إذن لمجتمعات مسالمة ومتعايشة وآمنة من كل خوف ولنرفض العدوان والظلم بجميع أنواعه.

وأختم مقالتي هذه بخير كلام وهو كلام ربنا جل وعلا: “ياأيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كافة ” الآية 208 سورة البقرة.

وقال سبحانه وتعالى: “ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير ” الآية 13 سورة الحجرات.