جامع القرويين ومدارس التعليم العتيق في حاجة ماسة وملحة إلى جميع خريجي جامع القرويين وحاملي العالمي، رسالة إلى من يهمهم الأمر.
د. عبد الوهاب العمراني
يعد جامع القرويين الذي أسسته فاطمة الفهرية رحمها الله عام 245 ه أقدم جامعة عرفتها البشرية على مر التاريخ، وهذا فخر للمغاربة جميعا ينبغي أن يعتزوا به، وأن يولوا هذا المسجد وهذه الجامعة كل الاهتمام والتقدير والرعاية.
وقد تلقى العلوم في هذه الجامعة علماء كبار كابن خلدون عالم الاجتماع الذي مازال بيته الذي كان يسكن فيه موجودا في المدينة العتيقة بالطالعة الكبرى بفاس، كما تلقى علمه فيها البابا سيلفيستر الذي كان أول من أدخل الأعداد العربية إلى أوروبا، ومن أبرز من درسوا بجامع القرويين الطبيب والفيلسوف أبو الوليد ابن رشد الحفيد، وابن باجة التجيبي، الذي يُعد من أبرز الفلاسفة المسلمين، والطبيب الأندلسي موسى بن ميمون وغيرهم كثير.
وهنا نسوق شهادة للمستشرق الروسي جوزي كريستوفيتش يقول فيها :
” إن أقدم مدرسة كلية في العالم أنشئت لا في أوروبا كما قد يظن، بل في إفريقية في مدينة فاس عاصمة بلاد المغرب سابقا، إذ قد تحقق بالشواهد التاريخية أن هذه المدرسة كانت تدعى كلية القيروان – يقصد جامع القرويين- وقد أسست في الجيل التاسع للميلاد، وعليه فهي ليست فقط أقدم كليات العالم، بل هي الكلية الوحيدة التي كانت تتلقى فيها الطلبة العلوم السامية في تلك الأزمنة حينما لم يكن سكان باريز وأكسفورد وبارو وبولونيا يعرفون من الكليات إلا الاسم “. جامع القرويين للدكتور عبد الهادي التازي 1/115.
هذا الجامع الذي تخرج منه المجتهدون الكبار والعلماء الأفذاذ والأدباء الفحول والحكام العظام هو الذي يحافظ على هوية الأمة وتاريخها وحضارتها، وهو المحافظ على ثوابت الأمة والضامن لاستقرارها وأمنها ووحدتها، بل هو مبدأ الارتكاز للحياة الفكرية في المغرب كما يقول العلامة عبد الله كنون رحمه الله : “ولما كانت المساجد في المجتمع الإسلامي تؤدي مهمتين، مهمة دينية ومهمة ثقافية إذ تلقى في أروقتها دروس في مختلف العلوم والفنون فإنا نعتقد أن جامع القرويين منذ إنشائه كان مبدأ الارتكاز للحياة الفكرية في المغرب بالرغم من وجود مساجد أخرى سابقة له في فاس وغيرها، ولا أدل على ذلك من أن كبار علماء المغرب الذين عرفناهم إنما نبغوا بعد التاريخ الذي شيد فيه ذلك المسجد”. النبوغ المغربي في الأدب العربي 1/47.
والكل يعرف الدور الكبير الذي قام به في محاربة المستعمر الفرنسي والوقوف في وجهه، منه خرجت المظاهرات التي تدعوا المغاربة إلى الجهاد لاسترجاع كرامة الأمة المغربية، حتى كان الفرنسيون المحتلون يسمونه: البيت المظلم.
وقال عنه الجنرال الفرنسي ليوطي: لا استقرار لنا في المغرب إلا بالقضاء على هذا البيت المظلم .
وقام المحتل بمحاصرة هذا المسجد ومعاقبة علمائه؛ لأنهم وقفوا ضده وحرضوا الناس على مواجهته، فمنهم من سجن وعذب، ومنهم من فرضت عليه الإقامة الجبرية في بيته، والتاريخ يشهد بذلك. ورغم ذلك بقي هذا المسجد صامدا لم تنقطع فيه الدراسة، يؤمه الطلبة من كل مكان ويتخرج منه العلماء عبر السنين، إلى أن جاءت فترة حالكة سوداء مر بها هذا الجامع بعد خروج المستعمر وبعد حصول المغرب على الاستقلال .
وهذا ما يحير العقلاء ويدعوا إلى الحسرة، فالمفروض بعد خروج المستعمر أن يعطى هذا الجامع ما يستحقه من التقدير والرعاية ويعود إلى سابق عهده أو أحسن من ذلك .
استمر يؤدي وظيفته العلمية لأكثر من أحد عشر قرنا، إلى أن توقفت الدراسة فيه لأول مرة في بداية الستينات من القرن العشرين، وبقي فارغا من الطلاب والمدرسين لمدة ثلاثين سنة .
استمر جامع القرويين على هذه الحال إلى أن عادت الروح إليه باقتراح من وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري رحمه الله، حيث اقترح على جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه إعادة الدراسة في هذا الجامع، فوافق وأعطى أمره بإحياء الدراسة فيه وإعادته إلى سابق عهده، وذلك في يوم 21 ربيع الثاني 1409 ھ الموافق ل 2 دجنبر 1988 م وتم الافتتاح ب 150 طالبا بعد أن أجري لهم اختبار في حفظ القرآن وحفظ بعض المتون العلمية، وانبرى لهذه المهمة الجليلة عدد كبير من خيرة علماء القرويين الكبار بقية السلف الذين يتمتعون بعلم غزير وحيوية كبيرة وشوق إلى الماضي المجيد، أذكر منهم: العلامة محمد التاويل – العلامة أحمد الغازي الحسيني – العلامة محمد بن حماد الصقلي – العلامة الطيب برادة – العلامة عبد الرحمن اربيحة- العلامة عبد الحي العمراوي- العلامة اعبابو – العلامة غازي مختوم- العلامة بن سالم الفاسي – العلامة محمد العمري- العلامة عبد الحميد ازويتن – العلامة محمد بن علي الكتاني – العلامة عبد الله أمزيان- العلامة عبد الكريم العراقي- العلامة محمد الزيزي- العلامة الهادي اليعقوبي اخبيزة – العلامة محمد التوزاني- العلامة المفضل التاويل- العلامة محمد العمراني- العلامة حميد بن الحاج – العلامة محمد بن معجوز المزغراني – العلامة عبد الرحمن الوردي – العلامة علال كنبور… فشمروا عن ساعد الجد وقاموا بالواجب أحسن قيام رغم المقابل المادي الزهيد الذي كانوا يتلقونه، والصعوبات التي واجهتهم، وكان طلبة القرويين كذلك في مستوى الحدث فواظبوا على التلقي والتعلم لمدة 13 سنة، رغم أنهم كانوا يعيشون ظروفا أقل ما يقال عنها إنها سيئة، ولا تساعد على تلقي العلم لعدم توفر الوسائل المساعدة على الدراسة والمبلغ الزهيد الذي كانوا يتلقونه آخر كل شهر والذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، وعدم وجود قوانين تنظم هذا التعليم وتوضح مصير المتخرجين منه، ونوع الشواهد التي سيحصلون عليها، مما أثر في نفسيتهم طيلة هذه السنوات، وانقطع عن الدراسة عدد كبير منهم، ولم يستمر على طريق الطلب والتحصيل إلا عدد قليل.
واعتمد في التدريس مقرر فريد بمنهج مدروس دراسة عميقة، اختير من كل فن أفضل ما ألف فيه، أذكر من هذه المقررات: في علم التوحيد: -الخريدة بشرح الدردير – السنوسية بشرحها أم البراهين – المرشد المعين بشرح الطيب بنكيران- مقدمة الرسالة لابن أبي زيد القيرواني. في علم التفسير: – تفسير الجلالين – تفسير البيضاوي – تفسير أحكام القرآن للقرطبي. في علوم القرآن: – الإتقان في علوم القرآن للسيوطي.
في علم التجويد: – الجزرية بشرح شيخ الإسلام أبي زكريا – منظومة ابن بري بشرحها: الدرر اللوامع – باب السلام لزويتن. في علم الحديث: – موطأ الإمام مالك بشرح الزرقاني- صحيح البخاري بشرح القسطلاني – صحيح البخاري بشرح ابن بطال – مختصر ابن أبي جمرة بشرح مؤلفه – سبل السلام بشرح بلوغ المرام للصنعاني. في علم مصطلح الحديث: – البيقونية بشرح الزرقاني. في علم الأصول: – الورقات لإمام الحرمين بشرح الحطاب – مفتاح الوصول للتلمساني – جمع الجوامع للسبكي بشرح المحلي وحاشية البناني وتقريرات الشربيني. في علم الفقه: – المرشد المعين بشرح ميارة الصغير مع الاستعانة بالكبير– الرسالة لابن أبي زيد القيرواني- مختصر الشيخ خليل بشرح الدردير وحاشية الدسوقي – التحفة لابن عاصم بشرحيه: التسولي والتاودي – لامية الزقاق بشرح التاودي – بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الحفيد- المنهج المنتخب للزقاق. في علم الفرائض: – فرائض الشيخ خليل- العروة الوثقى لمحمد العلمي الحسني. في علم الوثائق: – شرح الوثائق العدلية للهواري. في علم السيرة: – نور اليقين للخضري، إتمام الوفاء بسيرة الخلفاء للخضري. في علم التوقيت: – شرح المقنع – شرح الماردينية للشيخ الفشتالي – حل العقدة الستينية بالسراج الموضوع – تقريب البعيد على الجامع المفيد في أصول الرصد الجديد لمحمد العلمي. في علم الجمل: – الجمل للمجرادي- منظومة الزواوي بشرح الرسموكي. في علم النحو: – الأجرومية – قطر الندى بشرحه لابن هشام – ألفية ابن مالك بشرح ابن عقيل– أوضح المسالك لابن هشام. في علم التصريف: – متن الزنجاني- لامية الأفعال بشرح بحرق. في علم البلاغة: -الجوهر المكنون بشرح الدمنهوري – مختصر السعد على التلخيص للقزويني. في علم الجدل والمناظرة: – المنهاج في ترتيب الحجاج للباجي. في علم العروض: – الشرح الصغير للدمنهوري على متن الكافي. في علم المنطق: – شرح القويسني على السلم. في علم الأدب: -لامية ابن الوردي بشرحها -لامية العجم بشرح بحرق – لامية العرب بشرح الزمخشري – ديوان الحماسة لأبي تمام بشرح التبريزي- مقامات الحريري – تاريخ آداب العرب للرافعي – إعجاز القرآن والبلاغة النبوية للرافعي. في علم التاريخ والحضارة: دروس مختارة من التاريخ المغربي- محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية للخضري، وهناك مقررات أخرى في علوم متعددة لا يتسع المجال لذكرها.
تم الافتتاح في التاريخ المذكور، وكان الفوج الأول يتكون من 150 طالبا، وبعد ثلاث سنوات التحق بهذا الجامع 150 طالبا آخر، ثم توالت الأفواج الأخرى .
قضى الفوج الأول 12 سنة، تخرج في الدورة الأولى منه 15 عالما فقط، ثم التحق بهم 13 عالما في الدورة الثانية، فكان مجموع المتخرجين في الدورتين الأولى والثانية 28 عالما فقط من 150 طالبا، وهذا يبين الحالة التي كان الطلبة يواصلون فيها دراستهم والظروف التي كانوا يعيشونها، وعدم وجود محفزات وإجراءات تساعد على مواصلة المسير إلى التخرج .
كما تخرج من الفوج الثاني الذي كان يتكون من 150 طالبا عدد قليل من العلماء كذلك بعد أن قضوا 13 سنة بعد صدور القانون المنظم للتعليم العتيق والذي يلزم طلبة القرويين بقضاء 4 سنوات في الطور النهائي أسوة بغيرهم في التعليم الجامعي العمومي.
صدر قانون رقم 01, 13 المنظم للتعليم العتيق، وتم تغيير البرامج والمقررات وذلك بإضافة بعض مواد التعليم العمومي، كاللغات الأجنبية والمواد القانونية ونحوها، وتمت معادلة شهادة العالمية التي كان يحصل عليها المتخرجون من جامع القرويين بالإجازة، وكان الأولى أن تعادل العالمية في جامع القرويين بالماستر أو الدكتوراه؛ لأن مستوى الطالب الذي درس لسنوات في التعليم العمومي كما هو حال أغلب طلبة القرويين، ثم حفظ القرآن الكريم لسنوات عدة، وحفظ كثيرا من المتون، ثم التحق بجامع القرويين وقضى فيه 12 سنة أو 13 سنة، ثنى فيها الركب وجلس على الحصير وهو يجتهد ويحصل العلوم، لا ينبغي أن يقارن حاله ومستواه بمن حصل على الإجازة في التعليم العمومي، وقد جاء في الفصل الثامن من الظهير الملكي المؤرخ في 10 ذي الحجة 1351 ھ الموافق ل 31 مارس 1933 م أن المتخرجين من جامع القرويين يتولون مهام التدريس بنفس الجامع ومهام القضاء في مختلف مدن المملكة المغربية .
كان الشروع في الدراسة بجامع القرويين وإعادة الحياة إليه من جديد خطوة جريئة وصائبة – جزى الله خيرا من كان سببا فيها – في وقت مناسب باعتبار أن علماء القرويين الذين أخذوا المشعل واعتلوا كراسي العلم بجامع القرويين من جديد، كانوا في أغلبهم من كبار السن، وكان جامع القرويين يفقد كل سنة ثلة من هؤلاء العلماء الأجلاء رحمهم الله رحمة واسعة وأطال في عمر الباقين منهم – وممن فقدناهم مؤخرا شيخ الجماعة المحقق المدقق المجتهد العلامة سيدي محمد التاويل رحمه الله – فكان تخرج أفواج جديدة من العلماء الشباب بمثابة ربط للحاضر بالماضي وبقاء السلسلة موصولة والسند متصلا .
بعد تخرج هذه الفئة من العلماء الشباب لم يتم الاستفادة منهم كما ينبغي وتم توظيفهم بطريقة لا تراعي خصوصيتهم ومستواهم العلمي والمكان المناسب الذي ينبغي أن يكونوا فيه، فتم تعيينهم في المندوبيات الجهوية والإقليمية للشؤون الإسلامية والنظارات والمجالس العلمية موظفين عاديين، وبعضهم تخرجوا من معهد تكوين الأئمة المرشدين والمرشدات بالرباط وتم تعيينهم مرشدين ومؤطرين، حيث انقطعت صلة هؤلاء جميعا بما تعلموه ودرسوه في مدة طويلة، وقد التقيت مرة بأحد العلماء النجباء الفضلاء المتخرجين من جامع القرويين والذي عين موظفا في إحدى الإدارات وهو يتأسف على واقعه قائلا: لقد انقطعنا عن العلوم التي تعلمناها في جامع القرويين لمدة طويلة وكدنا أن نصبح أميين فيها.
ومن المعلوم أن العالم إذا ارتبط بالتدريس والتعليم فإن علمه يرسخ ويتراكم ويثبت بالعطاء، وإذا انقطع عنه فإنه ينقص ويذبل إن كفا به شدَّ، ولهذا ينبغي تصحيح هذا الوضع وإعادة المياه إلى مجاريها، فالمكان المناسب لهذه الفئة من العلماء سواء كانوا إداريين أو مرشدين هو معاهد التعليم العتيق معلمين ومربين ومدرسين للعلوم الشرعية، ولا ينبغي أن يمنعوا من التدريس فهم الأقدر على ذلك، وهم الذين هيئوا لهذه المهمة أساسا لا غير، والحال أن معاهد العلوم الشرعية انتشرت في جل المدن المغربية وهي محتاجة لمثل هؤلاء العلماء.
وقد أنشأت وزارة الأوقاف مؤخرا معهدا شرعيا في مدينة فاس باسم معهد فاطمة الفهرية وهو إضافة نوعية لجامع القرويين، لكن بقي هذا الجامع العريق يستقبل طلبة المستوى النهائي فقط، والمرجو ممن يهمهم الأمر أن يبقى جامع القرويين عامرا بطلبته في جميع مستوياته التعليمية، فهناك طلبة كثيرون يبحثون عن معاهد يتعلمون فيها العلوم الشرعية يمكن أن يسجلوا في جامع القرويين ويتابعوا دراستهم فيه، ويبقى هذا الجامع عامرا شامخا تدرس فيه العلوم الشرعية بجميع المستويات ابتدائية وإعدادية وثانوية ونهائية، وقد أضافت الوزارة مؤخرا مشكورة على ذلك مستويات عليا كالماستر والدكتوراه، وبذلك يستمر جامع القرويين يخرج أفواجا تلو أفواج من العلماء، والحال أن أمير المؤمنين محمدا السادس حفظه الله قد أعطى أمره بإعادة ترميم المدارس العتيقة بمدينة فاس والتي بنيت وجعلت أساسا وقفا ليستقر فيها طلبة القرويين من مختلف ربوع المملكة الشريفة.
تابع آخر الأخبار من دين بريس على نبض

