26 أكتوبر 2025 / 14:08

نحو وعي جديد، الإنسان قبل الانتماء

كريمة العزيز

في زمن تتسارع فيه التغيرات ويختلط فيه الصوت الصادق بضجيج المصالح، يبدو أننا بحاجة إلى وقفة تأمل لا وقفة احتجاج. هل نحن بحاجة فعلًا إلى ضخ المزيد من الأموال في انتخابات روتينية تكرر الوجوه نفسها أم أننا بحاجة إلى ضخ فكر جديد في عقولنا؟

هل نحتاج إلى لافتات وإعلانات تزين الشوارع أم إلى ورشات ولقاءات تنير العقول؟ إن الدعاية الانتخابية في معناها الحالي لا تزال تقسمنا أكثر مما توحدنا لأنها تغذي ثقافة التصويت على الأشخاص بدل البرامج والانتماء للأسماء بدل الأفكار. أليس الأجدر أن ننتقل من مرحلة الأغلبية الحزبية التي تحكم إلى مرحلة التباري، حيث ينجح من يقدم برنامجه الأفضل؟ أن يصبح المعيار في التسيير هو الكفاءة والصدق في العمل لا لون الحزب ولا شعار التيار.

لماذا لا نفكر في نموذج جديد يقوم على التباري بين الكفاءات وأصحاب الخبرة في كل مجال؟ أن يتقدم كل من يرى في نفسه القدرة على الإصلاح ببرنامج واضح وزمن محدد لتطبيقه، وأن يُمنح التسيير لمن يقدم أفضل خطة وأوضح رؤية. أليس من المنطقي أن يكون وزير الصحة طبيبًا عاش الميدان ويعرف معاناة المستشفيات، وأن يكون وزير التعليم أستاذًا مارس المهنة وعاش تفاصيل النظام التعليمي، وأن يكون من يتولى المراقبة شخصًا ذكيًا نزيهًا يتقن المتابعة والمحاسبة؟

إننا بحاجة إلى عقل جديد يدير لا إلى وجه جديد يكرر، إلى مسؤول يفهم واقعه ولا يكتفي بالحديث عنه، فالقائد الحقيقي هو الذي يعيش تفاصيل الميدان قبل أن يصعد إلى المنصب.

لا يقاس المجتمع بعدد أحزابه بل بعمق وعي أفراده، وقوة الوطن لا تأتي من كثرة الخطاب بل من قوة ضميره الجمعي، من مواطن يؤدي واجبه لأنه يعلم أن الله يراه لا لأن أحدًا يراقبه. في القرآن حين قال الله تعالى “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون” لم يربط العمل بالمراقبة الخارجية بل بالضمير الداخلي، فإذا صلح الضمير استقامت المؤسسات لأن المراقبة الحقيقية تبدأ من القلب قبل المكتب.

لماذا لا نعيد التفكير في بنية المجتمع بدل الشعارات؟ ولماذا لا نبدأ بإحياء مفهوم المسؤولية المشتركة بدل المنافسة الحزبية؟ ألسنا في زمن الذكاء الاصطناعي حيث يمكن أن تصبح الشفافية رقمية والمحاسبة آنية؟ فما حاجتنا إذن إلى مظاهر ورقية تستهلك المال دون أن تصنع وعيًا؟

ربما حان الوقت لنسأل أنفسنا، هل نحن بحاجة إلى أحزاب جديدة أم إلى عقول جديدة؟ إلى تنظيمات سياسية أم إلى تربية اجتماعية تخرج مواطنًا صالحًا يعرف أن الإصلاح يبدأ من ذاته؟ ولم لا نفكر في وزارة المواطن الصالح تعمل باستمرار على التوعية والتحسيس بالمسؤولية تجاه الوطن وتبني روح المواطنة الصادقة؟ في الدين لم تكن الرسالات السماوية يومًا دعوات إلى السلطة بل إلى الصراط المستقيم، إلى عدل ورحمة وصدق يقيم المجتمعات قبل أن يقيم الشعائر.

لو استعدنا جوهر الدين لفهمنا أنه مشروع إنساني لإصلاح الأرض لا لتقسيمها، وأن العدالة الاجتماعية ليست مطلبًا دنيويًا بل عبادة خالصة لله لأنها تحقق الكرامة التي كرم بها الإنسان. لهذا ربما نحتاج أن نعيد النظر في الأسماء قبل الأنظمة،

لماذا لا نحدث وزارة باسم منهاج الصراط المستقيم، تعلم الناس أن الدين ليس طقوسًا فقط بل طريقًا للحكمة والتوازن والتعايش؟ إن التغيير الحقيقي لا يبدأ من الصناديق بل من الصدور، من المواطن الذي يراقب نفسه قبل أن يراقبه غيره، ويعمل بإتقان لأنه يرى في عمله عبادة وفي وطنه أمانة وفي كل خطوة فرصة لترك أثر طيب. ربما آن الأوان بأن نفكر نُسير بعدل ووعي وسلام.