محمد خياري
يقف أمير المؤمنين، وارثُ السرِّ المُنِيفِ لأسلافه المنعمين، حارسًا أمينًا لوصية جده المصطفى ﷺ، مجدِّدًا معاني الإسلام في وجدان المغاربة، ساهرًا على إحياء شعائرهم، ناظرًا في أحوالهم برحمة، مستجيبًا لنداء الفقراء والمساكين، ومُبادرًا إلى خدمة الدين بما يليق بمقام الإمارة الربانية.
منذ أن اعتلى عرش المغرب، لم تكن الإمارةُ لديه زينةً دنيوية عابرة، ولا سلطةً مُتعالية جافية، بل كانت عهدًا إلهيًا، وميثاقًا مع الأمة، أن يكون خادمًا للشريعة، وراعيًا للعبادة، ومُجدِّدًا لمعاني الرحمة في أرضٍ عطشى للعدل، مُتعطِّشة للسكينة. فكان أن انبعثت مكرماتُه كنهرِ العطاء الجاري، لا يعرف انقطاعًا، ولا يخشى جفافًا.
حوالي مليون نسخة من المصحف الشريف تُوزَّع سنويًا، كأنها قَطَراتُ نورٍ تتساقط على قلوب المغاربة وغير المغاربة، تروي ظمأهم إلى كلام الله، وتُحيي فيهم نَسَمَةَ النبوة، وتربطهم بسلسلة النور التي لا تنفصم. آلاف المساجد شُيِّدت، داخل المغرب وخارجه، كأنها مناراتٌ على طريق السالكين، ومقاماتٌ للذاكرين، ومَلاذٌ للقلوب التائبة. وملاييرُ الدراهم تُصرَف من أموال دافعي الضرائب، لا تَرَفًا ولا رياء، بل خدمةً للقَيِّمين الدينيين، الذين يحملون أمانة التبليغ، ويؤدون رسالة النور، ويقودون الناس إلى الصلاة والصيام والحج، في يُسرٍ وطمأنينة، وفي ظلِّ رعايةٍ لا تعرف الكَلَل.
ثم جاء دور الزكاة، الركنُ الذي كاد أن يكون مهجورًا في كثير من الأقطار، والمغيَّبُ عن أنظار السياسات، فكان أن أشرقت شمس الفتوى، وصدَحت بوابة المجلس العلمي الأعلى بنداءٍ ربانيٍّ، يستجيب لتوجيه ملكي سامٍ، بمناسبة مرور خمسة عشر قرنًا على ميلاد الرسول ﷺ، وكأنها ولادةٌ جديدةٌ لمعاني الرحمة، وتجديدٌ للعهد مع الفقراء والمساكين، الذين جعلهم الله أولى بميراث الزكاة، وأحقَّ بالصدقة، وأقرب إلى القلب النبوي.
هذه الفتوى ليست مجرد نصٍّ فقهي، بل هي مقامٌ من مقامات التذكير، ونَفْحَةٌ من نفحات الرحمة، وصياغةٌ مالكيةٌ أصيلة، تنفتح على الاجتهاد المعاصر، وتستجيب لحاجات الناس، وتُراعي السياق المغربي، وتستحضر التصنيفات الوطنية والدولية للفقر، في وعيٍ مؤسسيٍّ مُتقدِّم، يجعل من الزكاة أداةً لمكافحة الهشاشة، ووسيلةً لإحياء التكافل، وجسرًا بين الغني والفقير، وبين المال والرحمة، وبين الدنيا والآخرة.
لغة الفتوى جزلةٌ، سامقة، تليق بمقام أمير المؤمنين، وتستحضر روح الخطاب الملكي، وتُخاطب القلوب قبل العقول، وتشرح الأحكام بلُغةٍ مُبسَّطة، تقرِّب المصطلحات الفقهية من الواقع المعاش، وتستعمل الجداول لتيسير الفهم، وتُحدِّد الأنصبة بدقة، وتفتح باب الاجتهاد في الأنشطة الجديدة، وتقترح اعتماد نصاب الفضة، وتربط الزكاة بالقيمة السوقية، وتستحضر الأجر الأدنى الوطني، في وعيٍ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ متكامل.
الفتوى تستشهد بالآية الكريمة: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾، وتؤكد أن الزكاة ليست مجرد إخراج مال، بل هي تطهيرٌ من الشُّحِّ، وتزكيةٌ للنفس، وتحريرٌ من عبودية المال، وتأكيدٌ على أن الفقراء والمساكين هم أولى الناس بها، وأن بعض الأصناف التي وردت في كتب الفقه، كالمُؤَلَّفَةِ قلوبهم، لا تُناسب السياق المغربي، الذي تجاوز تلك المرحلة، واحتاج إلى اجتهادٍ جديدٍ، يراعي الواقع، ويستجيب للحاجات.
ثم يأتي الجواب عن الأسئلة، لا من بُرجٍ عاجيٍّ، ولا من مقامٍ مُتعالٍ، بل من ساحة الجهاد الأكبر، حيث ينزل العالِم المغربي، في عهد إمارة المؤمنين، إلى هموم الناس، يشاركهم قضاياهم الأسرية، والمالية، والأخلاقية، والصحية، والعقارية… إلخ، يتمرَّغ في تربتهم الطاهرة، ويخدمهم لوجه الله، لا طلبًا لِسلطة، ولا رغبةً في جاه، بل وفاءً للعهد، واستجابةً للنداء، وسلوكًا في طريق النبوة.
هذا هو أمير المؤمنين، وهذا هو سلوك علماء إمارة المؤمنين، الذين جعلوا من الفتوى مقامًا للرحمة، ومن الزكاة وسيلةً للعدل، ومن العلم طريقًا للجهاد، ومن الإمارة بابًا للولاية الإلهية، ومن المغرب أرضًا للبركة، ومن الشعب أمانةً في أعناقهم، ومن الفقراء مرآةً لوجه الله في الأرض.
إنها فتوى لا تُقرأ فقط، بل تُتلى كدعاءٍ، وتُحفظ كوصية، وتُطبَّق كعبادة، وتُبث عبر بوابة إلكترونية، كأنها نداءٌ من السماء، يصل إلى كل بيت، ويخاطب كل قلب، ويُحيي كل ضمير، ويجعل من الزكاة شعيرةً حية، لا ميتة، ومن الفقه علمًا نافعًا، لا جامدًا، ومن العالِم خادمًا، لا مُتسلِّطًا، ومن أمير المؤمنين وليًا، لا حاكمًا.
هكذا تتجلى إمارة المؤمنين، في المساجد والمنارات، وفي الفتاوى المُشرقة، وفي خدمة الدين والقيم، وفي الرحمة والولاية، وفي الحاضر والمستقبل، وفي الفقراء والمساكين. والمغرب، في ظل هذه الإمارة، ليس مجرد وطن، بل هو مقامٌ من مقامات النور، وساحةٌ من ساحات الجهاد الأكبر.
فطوبى لأمير المؤمنين، وطوبى لعلماء إمارة المؤمنين، وطوبى للمغرب، وطوبى للفقراء، وطوبى للزكاة، وطوبى للرحمة، وطوبى لكل قلبٍ سلك طريق النور، واستجاب لنداء الفتوى، وأخرج زكاته، وطهَّر ماله، وزكَّى نفسه، وشارك في بناء المغرب الجديد، حيث تتعانق الإمارة بالشريعة، وتتناغم السياسة مع الرحمة، ويصبح الدين حياةً، والفتوى نورًا، والزكاة عدلًا، والعالم خادمًا، وأمير المؤمنين وليًا، والمغرب مقامًا من مقامات الجمال الإلهي.
تابع آخر الأخبار من دين بريس على نبض

