الشيخ الصادق العثماني – أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
منذ أن دخل الإسلام إلى بلاد المغرب في القرن الأول للهجرة، بدأ التفاعل بين الدين الجديد والبيئة الثقافية والاجتماعية المغربية يتخذ طابعًا خاصًّا، أفرز نموذجًا دينيًا متميزًا أصبح مع مرور الزمن السمة البارزة لهوية المغاربة. وقد كان لعلماء المغرب وفقهائه الدور الأكبر في بناء هذا النموذج وصيانته، عبر جهودهم في ترسيخ المذهب المالكي في الفقه، والعقيدة الأشعرية في الإيمان، والتصوف السني في السلوك والتربية. وبهذا المزيج المتكامل، تشكلت ملامح الهوية الدينية المغربية التي تتسم بالوسطية، والاعتدال، والوفاء للثوابت، مع انفتاح على الاجتهاد العقلي وروحانية التصوف التربوي .
لقد ارتبطت بدايات التأسيس الفقهي للمغرب بالمذهب المالكي الذي انتشر في البلاد منذ القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، في عهد الدولة الإدريسية، حينما وجد المغاربة في فقه الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) منهجًا يجمع بين النص الشرعي والعرف المحلي، ويمنح مساحة واسعة للاجتهاد في ضوء المقاصد. وقد نقل تلامذته، وعلى رأسهم الإمام سحنون بن سعيد التنوخي (ت 240هـ/854م) في القيروان، هذا الفقه إلى الغرب الإسلامي، وجمع آراء مالك وأصحابه في “المدونة الكبرى”، التي أصبحت المرجع الأساس لفقهاء المغرب والأندلس، ومنذ ذلك الحين، تكرّس المذهب المالكي في التعليم والقضاء، وتبنّته الدول المغربية المتعاقبة باعتباره ضامنًا لوحدة الأمة ومصدرًا للفتوى والاجتهاد الجماعي . وفي هذا السياق
برز في المغرب عدد من الأعلام الذين رفعوا راية المذهب المالكي وساهموا في تطويره، مثل القاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي (ت 544هـ/1149م)، صاحب كتاب “الشفا بتعريف حقوق المصطفى”، الذي جمع بين فقه المذهب وعقيدة الأشاعرة، وكان من كبار علماء سبتة في عهد المرابطين والموحدين، كما لمع اسم الإمام أبو بكر بن العربي المعافري الإشبيلي (ت 543هـ/1148م)، الذي رحل إلى المشرق ودرس على كبار العلماء ثم عاد إلى المغرب حاملاً روح الاجتهاد والتجديد. وقد أسهم في تكييف الفقه المالكي مع الواقع المغربي والعادات المحلية، مما جعله أكثر مرونة واستيعابًا للتنوع الاجتماعي والثقافي.
وفي القرون اللاحقة، واصل العلماء المغاربة دورهم في حفظ الفقه المالكي وتعليمه، مثل الشيخ ميارة الفاسي (ت 1072هـ/1661م)، الذي ألف شروحًا على متون الفقه، والشيخ أبو علي اليوسي (ت 1102هـ/1691م)، الذي جمع بين العلم والورع، وكان من دعاة إصلاح التعليم الديني في فاس، وبفضل جهود هؤلاء، بقي المذهب المالكي هو المذهب السائد في القضاء والتعليم والإفتاء حتى العصر الحديث؛ حيث تبنّته الدولة المغربية ضمن ثوابتها الدينية الثلاث.
أما في جانب العقيدة، فقد كان للمغاربة نصيب وافر في نشر المذهب الأشعري والدفاع عنه منذ القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، حينما بدأ علماء الأندلس والمغرب يتأثرون بفكر الإمام أبي الحسن الأشعري (ت 324هـ/936م)، الذي دعا إلى التوفيق بين النقل والعقل، وإثبات العقائد على منهج برهاني لا يتصادم مع النصوص الشرعية. وقد كان من أوائل من نشر الفكر الأشعري في المغرب القاضي أبو بكر بن العربي (ت 543هـ/1148م) وتلميذه أبو الحسن المريني، ثم تتابع بعدهم علماء كبار من أمثال الإمام محمد بن يوسف السنوسي (ت 895هـ/1490م)، الذي يعد من أعلام الفكر الأشعري في الغرب الإسلامي، وقد ألّف السنوسي مؤلفات شهيرة مثل “العقيدة الكبرى” و “العقيدة الوسطى” و “العقيدة الصغرى” ، التي أصبحت مقرّرات أساسية في التعليم الديني المغربي، ووسيلة لنشر عقيدة التوحيد على منهج الدليل العقلي والنقلي معًا. وفي العصر نفسه، جاء عبد الواحد بن عاشر (ت 1040هـ/1631م) فجمع بين العقيدة والفقه والتصوف في منظومته الشهيرة “المرشد المعين على الضروري من علوم الدين”، التي لخص فيها الهوية الدينية المغربية بقوله:
“في عقد الأشعري وفقه مالك * وفي طريقة الجنيد السالك” .
وهذا البيت ليس مجرد عبارة شعرية؛ بل هو تلخيص علمي لمكونات المذهب المغربي في العقيدة والفقه والسلوك، ولم تكن الهوية الدينية المغربية لتكتمل دون البعد الروحي الذي مثّله التصوف السني التربوي. فمنذ القرن السادس الهجري، ازدهرت في المغرب الطرق والزوايا الصوفية التي جمعت بين العلم والتربية والجهاد. وكان من أوائل أعلام التصوف المغربي الشيخ أبو مدين شعيب الأنصاري (ت 594هـ/1198م)، الذي تتلمذ على كبار الصالحين بالمشرق ثم عاد إلى المغرب، فأسس مدرسة روحية قائمة على التزكية والصدق والتواضع. وقد تأثر به أجيال من الصوفية، حتى عُدَّ شيخ الطريقة المغربية الأولى.
وفي القرن السابع الهجري، برز القطب الكبير الشيخ الزاهد عبد السلام بن مشيش (ت 622هـ/1227م)، الذي اشتهر بورعه وزهده، وكان شيخ الإمام أبي الحسن الشاذلي (ت 656هـ/1258م)، مؤسس الطريقة الشاذلية التي انتشرت من المغرب إلى المشرق، وأضحت من أكثر الطرق تأثيرًا في العالم الإسلامي. وفي القرون اللاحقة، لمع نجم الشيخ أحمد زروق (ت 899هـ/1493م) بمدينة فاس، الذي جمع بين الفقه المالكي والتصوف، ووضع أسس “التصوف السني” القائم على الالتزام بالشريعة مع تهذيب النفس، في كتابه الشهير “قواعد التصوف”. وفي القرن الثاني عشر الهجري، ظهر الشيخ أحمد التيجاني (ت 1230هـ/1815م) الذي أسس الطريقة التيجانية في فاس، فانتشرت في المغرب وإفريقيا الغربية، وأسهمت في نشر الإسلام والتربية الروحية. ولم تكن هذه الطرق مجرد تجمعات دينية؛ بل كانت مؤسسات اجتماعية وتعليمية، احتضنت حفظة القرآن والطلاب، وأدت أدوارًا وطنية في مقاومة الاستعمار وتوحيد صفوف الشعب، مثل الزاوية الناصرية بتمكروت والزاوية الدرقاوية بالشمال والزاوية الوزانية.
ومع دخول العصر الحديث، واحتكاك المغرب بالتحديات الفكرية والسياسية الجديدة، ظل العلماء المغاربة أوفياء لهذا الإرث، فعملوا على تجديد الفكر الديني في إطار الثوابت. ومن أبرز أعلام القرن العشرين العلامة عبد الله كنون (ت 1989م)، الذي ربط بين الأصالة والمعاصرة في كتابه “النبوغ المغربي في الأدب العربي”، والشيخ محمد بن العربي العلوي (ت 1964م)، أحد رواد الإصلاح الديني والسياسي، الذي دعا إلى تنقية التدين من الخرافة مع التمسك بالمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية. كما برز وزير الأوقاف السابق الدكتور العلامة عبد الكبير العلوي المدغري (ت 2023م)، الذي جمع بين الفقه والسياسة والفكر، وكان من المدافعين عن وحدة المرجعية الدينية المغربية في كتابه “الوحدة في تنوع المذاهب”.
وفي العقود الأخيرة، واصلت المؤسسة الدينية المغربية بقيادة أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس دعم هذا النموذج الديني الأصيل، عبر المجلس العلمي الأعلى والرابطة المحمدية للعلماء والمجالس العلمية المحلية، التي يشرف عليها علماء معاصرون، مثل العلامة والمفكر الدكتور سعيد شبار ، والعلامة الدكتور أحمد عبادي، الذي يجسد مشروعًا علميًا لتجديد الخطاب الديني ومواجهة الفكر المتطرف، ووزير الأوقاف الحالي العلامة والمفكر الدكتور أحمد التوفيق، الذي جمع بين التصوف والعلم الحديث في رؤيته للهوية الدينية المغربية كنتاج تفاعل بين التاريخ والروح والعقل .
وهكذا، فإن الهوية الدينية المغربية لم تكن يومًا معطًى جامدًا؛ بل هي نتاج تراكم قرون من العمل العلمي والفكري والروحي. فقد أسهم العلماء والفقهاء في جعل الدين عنصر وحدة لا فرقة، وعنصر توازن لا تطرف، حيث انبنى الوجدان المغربي على فقه مالكي رشيد، وعقيدة أشعرية وسطية، وسلوك صوفي تربوي، وكل ذلك جعل من المغرب نموذجًا فريدًا في العالم الإسلامي، حافظ على أصالته وخصوصيته في مواجهة رياح التغيير، وقدم للعالم صورة عن الإسلام المتزن، المنفتح على العقل، المفعم بالروحانية والمحبة والسلام.
تابع آخر الأخبار من دين بريس على نبض

