الشيخ الصادق العثماني ـ أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
يشكل الدين في المغرب أحد الركائز الأساسية لهويته الوطنية، وهو ما جعل من موقع “أمير المؤمنين” الذي يتولاه جلالة الملك محمد السادس، أكثر من مجرد لقب؛ بل مسؤولية سامية تجسد عمق ارتباط العرش العلوي المجيد بحماية الدين الإسلامي المعتدل، وتثبيت المرجعية الدينية المغربية التي تتسم بالتوازن والانفتاح والوسطية.
فمنذ توليه العرش، جعل جلالته من الشأن الديني أولوية استراتيجية، وحرص على تجديد الحقل الديني بما يضمن الأمن الروحي للمواطنين، ويحميهم من تيارات الغلو والتطرف، التي باتت تهدد المجتمعات الحديثة في شتى بقاع العالم .
وقد تميزت سياسة جلالة الملك في هذا المجال بكونها شمولية، إذ لم تقتصر على الجانب التنظيمي أو الفقهي؛ بل امتدت إلى أبعاد تربوية، اجتماعية، أمنية، وثقافية، تُكرّس الإسلام المغربي الأصيل، الذي يجمع بين المذهب المالكي في الفقه، والعقيدة الأشعرية، والتصوف السني السلوكي، وهو ما يُنتج نموذجًا دينيًا متماسكًا، يرفض التكفير والعنف، ويدعو إلى التعايش والاحترام بين بني البشر، مهما اختلفت دياناتهم أو معتقداتهم..
وفي ظل التحولات العميقة التي عرفها العالم بعد أحداث 11 سبتمبر، وتصاعد الفكر التكفيري العابر للحدود، أدرك جلالة الملك محمد السادس مبكرًا أن تحصين المجتمع المغربي ضد هذه الآفات لا يكون إلا عبر إعادة هيكلة الحقل الديني بما يستجيب لتحديات العصر. فبمبادرة ملكية سامية، تم إصلاح منظومة التعليم الديني، وتحديث برامج تكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، من خلال إحداث معهد محمد السادس لتكوين الأئمة، الذي أصبح اليوم نموذجًا يحتذى به دوليًا، ويستقبل الكثير من الطلبة والطالبات من عدد من الدول الإفريقية والأوروبية، في إطار التعاون جنوب–جنوب، وتعزيز إشعاع التدين المغربي المعتدل .
كما حرص جلالته، باعتباره الضامن للوحدة المذهبية في البلاد، على تنظيم الفتوى، من خلال حصر إصدارها في المجلس العلمي الأعلى، منعًا لفوضى الفتاوى التي قد تُستغل لبث الفتن أو الترويج لأفكار هدامة، وهو ما ساهم في تعزيز المرجعية الدينية الرسمية، وإعادة الثقة للمواطنات والمواطنين في المؤسسة الدينية الرسمية، التي تعمل بتوجيهات أمير المؤمنين، على نشر الوعي الديني الصحيح، المبني على الرحمة والحكمة والموعظة الحسنة.
وفي إطار ترسيخ هذه الهوية الدينية، التي تدعو إلى المحبة والتسامح، عمل جلالة الملك محمد السادس على رعاية قيم التعايش بين مختلف الأديان داخل المغرب، فجعل من المملكة نموذجًا يحتذى به في الحفاظ على التنوع الديني والثقافي. وفي هذا السياق تم في عهده ترميم عدد كبير من المعابد اليهودية والكنائس المسيحية، كما أعيد الاعتبار للتراث اليهودي المغربي، باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الهوية المغربية.
كما شكلت زيارات جلالته لبعض هذه المعالم الدينية، وتأكيده في خطاباته على احترام الأديان السماوية، رسائل قوية للعالم تؤكد أن الإسلام المغربي منفتح، متسامح، يرفض الإقصاء والتطرف، ويكرم الإنسان لكونه إنسانًا.
لقد جعل جلالة الملك من الهوية الدينية المغربية رافعة أساسية لتعزيز السلم الاجتماعي داخل المغرب، كما وظفها كأداة ديبلوماسية فاعلة في علاقاته الخارجية، خصوصًا مع الدول الإفريقية التي تتقاسم مع المغرب نفس المرجعية الدينية.
وهكذا، أنشأ جلالته مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، لتقوية الروابط الروحية والدينية مع بلدان القارة، ومواجهة التحديات الفكرية التي يفرضها انتشار التيارات المتشددة، وهي المؤسسة التي أصبحت منصة للتعاون الديني بين المغرب وبلدان إفريقيا، وتعمل على نشر القيم الدينية المعتدلة، وتكوين جيل جديد من العلماء والدعاة الملتزمين بروح الإسلام السمحة.
إلى جانب ذلك، أطلق جلالته مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للقيمين الدينيين، تعبيرًا عن العناية الملكية برجال ونساء الدين، وتقديرًا لدورهم الحيوي في تأطير المواطنين وتثبيت المرجعية الدينية الوسطية. كما تم دعم الإعلام الديني من خلال إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم، التي تعتبر من أكثر الإذاعات استماعًا في المغرب، لما تتميز به من خطاب متزن ومحتوى تربوي وتعليمي هادف.
ولم تكن مواجهة جلالة الملك للتطرف والإرهاب مقتصرة على الوقاية الفكرية فقط؛ بل دعمها أيضًا بمقاربة أمنية فعالة، أثبتت نجاعتها إقليميًا ودوليًا. فقد تم إحداث المكتب المركزي للأبحاث القضائية، المتخصص في مكافحة الإرهاب، كما تبنى المغرب سياسة المصالحة وإعادة الإدماج لفائدة المعتقلين السابقين في قضايا الإرهاب، من خلال برامج تأهيلية نفسية ودينية واجتماعية، تكرّس روح التسامح والمواطنة.
وإلى جانب هذا كله، ما فتئ جلالة الملك محمد السادس يؤكد، في مختلف المناسبات الوطنية والدولية، على أن التعايش بين الأديان والثقافات هو السبيل الوحيد لضمان الأمن والاستقرار في العالم، داعيًا إلى نبذ الكراهية والحقد، وتعزيز ثقافة الحوار والتفاهم.
وقد تجلى ذلك بوضوح في زيارة البابا فرنسيس الأول إلى المملكة المغربية عام 2019، والتي تمحورت حول الحوار بين الأديان وقضايا المهاجرين، وتعزيز قيم التعايش والتسامح؛ حيث شددا معًا على ضرورة توحيد الجهود لمواجهة خطاب الكراهية والتطرف، ونشر ثقافة السلام، خصوصًا في أوساط الشباب.
وهكذا، فإن الدور الذي يقوم به جلالة الملك محمد السادس، أمير المؤمنين، في ترسيخ الهوية الدينية المغربية الأصيلة، وفي صيانة الأمن الروحي للمواطنين، يتجاوز البعد الداخلي، ليصبح نموذجًا عالميًا في التدبير الرشيد للشأن الديني، القائم على الاعتدال، والحوار، والتعايش، والمشترك الإنساني.
وإن هذا الدور الاستثنائي لا يمكن فصله عن الرؤية الملكية الحكيمة، التي تؤمن بأن حماية الدين ليست فقط مسؤولية دينية؛ بل هي أيضًا ركيزة أساسية لبناء مجتمع سليم، آمن، ومتوازن، يحترم الآخر، ويتعاون مع الجميع في خدمة الخير والسلام . يقول تعالى: “وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ..”.