أهمية الترجمة في قراءة المنطقة والعالم

نورا حريري. باحثة سورية 

إذا درست شيئًا بمعزل عن سواه، فلن تستطيع ردّه إلا إلى ذاته..

هذه مشكلة التخصص الدقيق، ومشكلة “المثالية” في الفلسفة، ومشكلة الانغلاق، ومشكلة أن تقرأ كثيرًا أو تختبر أشياء كثيرة في مجال واحد أو اثنين
..
كل مشكلة داخل كل مجال بحثي، أو حتى داخل طائفة، دين، ثقافة، سياسة، ستُرَدٌّ إلى المجال نفسه، حين تدرسها داخل المجال نفسه، الطائفة نفسها، الدين نفسه، الثقافة نفسها، الأفكار والأبنية والصور نفسها في حلقة لا يمكن كسرها، قتُكرِّس النتائج الأسباب، فتغدو النتائج أسبابًا، ومعادلات من الدرجة الاولى، تُكرِّس الانغلاق، كما تُكرِّس الأساطير والرموز والمؤامرات والهوامات.

الأفظع من أن يُرَد الشيء إلى نفسه في مجال بحثي أو ثقافي معين، والكارثة الكبرى، أن يُرَدّ كل شيء إلى شيء واحد، كما نعيش، منذ القرن الثامن عشر، تُرَدُّ فيه الأشياء إلى جهاز لاهوتي-علمي-ثقافي-لغوي-رياضي نعيش فيه فكريًا ونظريًا، فلا نستطيع أن نفكر أو نتحرك خارجه.

المجالات فيه كالكانتونتات لها حكوماتها ومؤسساتها ودستورها: التحليل النفسي مرتبط ضمنيًا بالميثولوجيا، وفقه اللغة، والانثروبولوجيا، والثيولوجيا، والآداب، وبعض مجالات الفلسفة. هنا حلقة واحدة وانغلاق واحد.

كانتون آخر يشمل العلوم السياسة، الإعلام، علم نفس الاجتماعي، العلاقات الدولية..

وكانتون آخر يشمل الفيزياء، والرياضيات، والمنطق الوضعي، والذكاء الاصطناعي، ونظرية النظم، وعلم الأعصاب، وعلوم الإدراك..

كل حركة داخل هذه الكانتونات لا قيمة لها علميًا أو فكريًا، تُكرِّس الانغلاق والرموز والأساطير بحسب المجال، وتؤدي إلى تناقضات جديدة، وانقسامات ثنائية، مقارنات سخيفة بين شرق وغرب ودين وآخر وثقافة عليا ودنيا وصدام حضارات. وكل حركة خارجه، تريد تدميره، تدمّر ذاتها في النهاية، ككل الحركات الأصولية وتنتج كوارث سياسية وثقافية.

لا أومن بالإصلاح الحداثي، ولا بالتدمير ما بعد الحداثي، ولا بالحوار والتثاقف ومدّ الجسور على الطريقة الليبرالية.
أومن بالترجمة، بالنسبة لي هي أكثر ثورية وعلمية من كل ما سبق. لا أتحدث عن الترجمة بين اللغات، فهذه يمكن أن تكون متورّطة أيضًا، بل بين العناصر.. الترجمة بما هي قراءة دقيقة من الداخل، قراءة العلاقات الداخلية، فلا تسمح لك أن ترد الشيء إلى ذاته، بما هي فهم لتمايزات القوة، للفجوة والطارئ وغير القابل للترجمة، بما هي تقبل للفقد والكسب، وبما هي رفض للمساواة الشكلية بين المجالات والثقافات.

المصدر: رابط صفحة الكاتبة على فيسبوك. والعنوان من اقتراح المنصة