محمد بن جماعة. باحث تونسي
لم يعد العقل، في زمننا، سيد قراراته كما كان يتصوّر فلاسفة التنوير. لقد خرج الإنسان الحديث من وهم السيطرة على اختياراته، ودخل إلى زمنٍ جديدٍ تُدار فيه قراراته الصغيرة والكبيرة عبر خوارزمياتٍ صامتة، تُقدّم له العالم في واجهاتٍ رقميةٍ مصمَّمة بعناية، بحيث يرى ما “يجب” أن يراه، ويقتنع بما صُمّم له أن يقتنع به. في الماضي، كان المواطن يختار جريدته أو قناته أو كتابه؛ أما اليوم، فإنّ الصفحة تختاره قبل أن يختارها. الاقتراحات، التوصيات، التصنيفات، الترندات، كلّها آليات جديدة لخلق وعيٍ مُوجَّه يظن نفسه حرًّا بينما هو يتحرك داخل فضاءٍ صمّمته له الخوارزمية.
لقد تغيّر شكل السيطرة من الرقابة إلى التخصيص. لم يعد الهدف حجب المعلومة، بل توجيه تدفقها. فالمعلومة التي تُخفيها السلطة القديمة كانت تُثير الشكّ، أما المعلومة التي تُغرقك بها السلطة الرقمية فتُطفئ قدرتك على التمييز. إنّ الرقابة في العصر الجديد لا تُمارَس من خارجك، بل من داخلك، حين تُغذّى ذائقتك بما يشبهك حتى لا تفكر فيما يختلف عنك. وهكذا، لم يعد القمع ضرورة، يكفي أن تُغلق الخوارزمية الأبواب غير المرغوب فيها داخل رأسك، فتصير السجون القديمة مجرد أثرٍ رمزي لعالمٍ باتت قيوده رقميةً بالكامل.
من المنع إلى التوجيه: ولادة السلطة الرقمية
في القرن العشرين، كانت السلطة تُخيف. في القرن الحادي والعشرين، تُقنع. لكنّ الخوارزمية تجاوزت القهر والإقناع معًا لتدخل مرحلةً ثالثة: التوجيه الخفي. لا تخاطبك كما يخاطبك السياسي أو الخطيب أو الصحفي، بل تعرفك أكثر مما تعرف نفسك. تحلل تفاعلاتك، مزاجك، وقت يقظتك، الكلمات التي تتوقف عندها أكثر من غيرها. ثم تُعيد تقديم المحتوى الذي “يناسبك”، فيخلق لك واقعًا مصغّرًا يطابق ذوقك ويستبعد ما يزعجك. بهذه الطريقة، لا تفرض السلطة الجديدة أفكارها، بل تجعلنا نعيش داخل فقاعاتٍ مريحة من المعنى، نتنفس فيها الألفة وننفر من الاختلاف.
وهكذا، لم تعد المسألة تتعلق بحرية التعبير، بل بحرية الإدراك. فالذي يتحكم في ما نراه وما لا نراه يمتلك القدرة على تشكيل العالم في وعينا. كل ضغطة “إعجاب”، كل مشاركةٍ عابرة، هي لبنةٌ في هندسةٍ ضخمةٍ تصنع وعينا الجمعي الجديد، وتحوّلنا من مواطنين إلى مستخدمين، ومن فاعلين في المجال العام إلى بياناتٍ خامٍّ تُستخدم لتغذية آليات التنبؤ والسلوك.
من مجتمع المراقبة إلى مجتمع التوجيه
لم يعد التحكم في الناس قائمًا على الممنوع والمسموح، بل على ما يُقدَّم أولًا وما يُدفَع إلى الخلف. ترتيب النتائج في محرّك البحث، أو الأخبار في الصفحة الأولى، هو في حد ذاته ممارسةٌ للسلطة، لكنها سلطة هادئة لا تُعلن نفسها. التحكم لم يعد يتطلّب حذف الأخبار، بل يكفي أن تُدفن تحت فيضٍ لا ينتهي من الأخبار الأخرى. وهكذا تحوّلنا من مجتمع المراقبة إلى مجتمع التوجيه الخفي، حيث تُقاد العقول بواسطة إحصاءات “ما يعجبك”، و”ما يشبهك”، و”ما قد يثير اهتمامك”. النتيجة ليست الجهل، بل التشويش المنظّم. لم نعد نفتقر إلى المعلومة، بل إلى القدرة على تنظيمها.
من الحقيقة إلى التخصيص
في هذا العالم، لم تعد الحقيقة هي ما يتفق عليه الناس، بل ما تُبرمجه الخوارزمية لكل واحدٍ على حدة. فما يظهر على صفحتك لا يشبه ما يظهر على صفحة غيرك، حتى لو بحثتما عن الموضوع نفسه. لقد تحوّل الفضاء الرقمي من ساحةٍ عموميةٍ واحدة إلى ملايين الساحات الخاصة، كل واحدةٍ منها تبني عالمها الداخلي الخاص، وتُقنع مستخدمها أنه يرى الصورة الكاملة، بينما هو في الحقيقة يرى انعكاس ذاته على مرآةٍ مصمّمة مسبقًا.
بهذا المعنى، لم تعد الخوارزمية مجرّد أداة تقنية، بل أصبحت مؤسسة رمزية جديدة للسلطة. إنها تُعيد تعريف المفاهيم التي كان يحتكرها العقل الحديث: الحقيقة، الاختيار، الذوق، الرأي، وحتى الحرية. لقد انتقلنا من مرحلة “العقل المستنير” إلى مرحلة “الذهن الموزّع”، حيث تتوزّع قراراتنا بين ملايين العقد الرقمية التي تُفكر بالنيابة عنا، وتُعيد صياغة ذاكرتنا، وسلوكنا، وحتى انفعالاتنا.