الشيخ الصادق العثماني – أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
لم تولد الهوية الدينية المغربية من رحم لحظة واحدة، ولا وُضعت لها أسسها في عهد بعينه؛ بل تشكلت بصبرٍ تاريخي طويل، عبر قرون من التحولات والفتن والمواجهات، على رقعة جغرافية ممتدة من الأندلس إلى الصحراء، مرورًا بجبال الأطلس وسهول الأطلسي..
لم تكن هذه الهوية “خيارًا نهائيًا” قرره حاكم أو مجمع من العلماء دفعة واحدة؛ بل كانت صيرورة حية ورحلة علمية، شارك في صنعها العلماء والسلاطين والأمراء والملوك، الزوايا والقبائل، والأزمات والضرورات، والمستجدات، حتى استوت على عودها في العصر الحديث، مستندة إلى ثلاث ركائز كبرى: المذهب المالكي في الفقه، والعقيدة الأشعرية في الإيمان، والطريقة الجنيدية في التصوف، تحت مظلة ضامنة ومرجعية جامعة هي إمارة المؤمنين .
تعود الجذور الأولى لهذه الهوية إلى الدولة الإدريسية، التي تأسست أواخر القرن الثامن الميلادي على يد إدريس بن عبد الله، الوافد من المشرق بعد فشل ثورة فخ، الذي احتضنته قبائل أوربة الأمازيغية، لم تكن هذه الدولة مكتملة النضج في بنيتها السياسية أو الدينية؛ لكنها كانت أول محاولة لبناء كيان إسلامي مستقل عن الخلافة العباسية، قائم على بيعة أهل البلد، وعلى انتماء مؤسسها لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما أضفى عليها شرعية دينية مبكرة، ستكون نواتها الأولى في بلورة مفهوم “إمارة المؤمنين” لاحقًا .
ورغم أن الإرث المذهبي لم يكن قد استقر بعد في المغرب، فإن تأثير الحجاز والعراق حمل في البداية بعض التنوعات العقدية والفقهية، من الزيدية إلى الاعتزال؛ لكنها لم تجد لها جذورًا عميقة في المجتمع المحلي المغربي .
مع تعاقب الدول، بدا أن المغرب في حاجة إلى مرجعية فقهية موحدة، تنظم العلاقة بين السلطة والشعب، وتضبط السلوك الديني في إطار جامع، وقد جاءت الإجابة الحاسمة مع المرابطين، الذين، وإن نشأوا في الصحراء على قدر من الصرامة الدينية، سرعان ما أدركوا الحاجة إلى تبني مذهب فقهي قوي ومتماسك، فكان اختيارهم للمذهب المالكي قرارًا استراتيجيًا، لا مجرد تفضيل علمي.
لم يكن المالكيون فقط أهل فقه وأحكام، بل كانوا فقهاء دولة، قدموا إجابات عملية للحكم، والإدارة، والتقاضي، وأسّسوا لعلاقة متوازنة بين النص والاجتهاد، بين العرف والدين، وقد نجح المرابطون، بتبنيهم لهذا المذهب، في ضبط الممارسة الدينية، وتوحيد المرجعيات، وجعلوا من المدرسة المالكية عنوانًا للشرعية والاتزان .
غير أن الفقه وحده لم يكن كافيًا، فقد واجهت البلاد تقلبات مذهبية عقدية، كانت تهدد وحدة الصف، وأحيانًا تُسهم في نشوء نزعات سياسية انفصالية. ومع بداية تراجع الموحدين وصعود المرينيين، كان التيار الأشعري في العقيدة قد بدأ يفرض نفسه كخيار توافقي، جامع بين النص والعقل، يحفظ الإيمان من الابتداع دون أن يقع في التشدد أو الجمود، وقد ساعدت خصائص العقيدة الأشعرية على ملاءمتها للبيئة المغربية، التي كانت تمتزج فيها الموروثات الدينية بالثقافات المحلية، وتحتاج إلى خطاب ديني يربط الناس بربهم من غير تفسيق أو تكفير .
ولعب العلماء، لا سيما من خلال المتون التعليمية المختصرة، دورًا حاسمًا في ترسيخ هذه العقيدة؛ حيث تحولت إلى عقيدة مدرسية تلقينية تُدرّس للصغار قبل الكبار، مثل منظومة ابن عاشر الشهيرة التي جمعت بين الفقه والعقيدة والتصوف .
وإذا كان الفقه يحكم العلاقات، والعقيدة تؤسس التصورات، فإن الروح ظلت بحاجة إلى تربية وتزكية. وهنا، يبرز التصوف السني، في نسخته الجنيدية، كواحد من أعمدة الهوية الدينية المغربية. لقد دخل التصوف إلى المغرب مبكرًا، لكنه ترسخ في القرون الوسطى على يد كبار المشايخ، ممن جعلوا من الزهد والورع والتربية الروحية مشروعًا اجتماعيًا يتجاوز الفرد، ويؤسس لمجتمعات كاملة تقوم على الحب، والخدمة، والخلوة، والذكر.
وتحولت الزوايا من محاضن فردية للتعبد، إلى مؤسسات تربوية واجتماعية، لعبت دورًا في ربط الحواضر بالبوادي، ونشر الإسلام في المناطق الوعرة والنائية، وتهذيب النفوس في زمن الاضطرابات والفتن، وقد كان التصوف المغربي محافظًا في جوهره، إذ لم يفصل بين الشريعة والطريقة؛ بل اعتبر التصوف امتدادًا للفقه والعقيدة، وسبيلاً لإحياء السنة في باطن الإنسان المغربي المسلم .
لكن كل هذا النسيج كان سيتفتت لولا وجود مؤسسة سياسية عليا تُنظّم هذا التعدد وتضبطه. لقد وفّرت مؤسسة إمارة المؤمنين هذا الإطار الناظم، الذي منع المغرب من الوقوع في فوضى الفتن المذهبية التي عرفتها بلاد المشرق، أو التمزقات الدينية التي عاشتها الأندلس بعد سقوطها، فكل دولة حكمت المغرب سعت إلى تثبيت هذه المؤسسة، كل بحسب فهمه وسياقه، من الدولة المرينية التي دعمت العلماء والزوايا، إلى الدولة السعدية التي خاضت معركة دينية ضد البرتغاليين، مرورًا بالدولة العلوية التي أعادت إنتاج المفهوم السياسي لإمارة المؤمنين على أساس الجمع بين النسب النبوي الشريف، والشرعية التاريخية، والحضور الديني .
وقد مثّل العلويون منذ القرن السابع عشر، خصوصًا في عهد المولى إسماعيل، صورةً حديثة لمفهوم الإمامة الكبرى، إذ تولوا شؤون الدين تعليمًا وقضاءً ووعظًا، وسعوا إلى حماية الوحدة المذهبية من الاختراقات الخارجية، سواء من قبل العثمانيين الذين حاولوا نشر مذهب أبي حنيفة، أو من قبل التيارات الشيعية التي نشطت في بعض مراحل التاريخ.
واستمر هذا التوجه في العصر الحديث، حيث تحولت إمارة المؤمنين من سلطة روحية تقليدية إلى مرجعية دستورية، تؤطر الحياة الدينية، وتحدد ثوابت الأمة، وتصونها من فوضى الفتاوى والتطرف .
وما يميز الهوية الدينية المغربية أنها لم تكن هوية انعزالية أو منغلقة؛ بل كانت منفتحة على محيطها، من الأندلس إلى إفريقيا جنوب الصحراء. فقد ساهم علماء المغرب في إشعاع المذهب المالكي في الأندلس، كما نشر فقهاء المغرب والمتصوفه منهم على الخصوص الإسلام السني في تمبكتو وغينيا ومالي..وكانت العلاقات بين فاس والقيروان، ومراكش وغرناطة، والرباط وتونس، جسورًا لتبادل العلم والتجربة، وليس لتصدير نمط واحد من التدين .
ولم يكن هذا البناء ليصمد، ولا ليستقيم، ولا ليستمر في المسير، لولا الجهد العلمي المتواصل الذي قام به علماء المغرب، من كبار المجتهدين إلى الشيوخ المربين، الذين جددوا الفقه المالكي وأحيوه، وشرحوا العقيدة الأشعرية وثبتوها، وسلكوا التصوف الجنيدي بحكمة وعلم . في كل قرن تقريبًا، برز علماء قاموا بدور التجديد والتأصيل، منهم من عُرف داخل المغرب، ومنهم من تجاوزت شهرته الآفاق.
في الفقه المالكي، لا يمكن الحديث عن ترسيخ هذا المذهب دون ذكر القاضي عياض، صاحب “الشفا بتعريف حقوق المصطفى”، و”ترتيب المدارك” الذي وثّق به سِيَر فقهاء المالكية، وأعطى للمذهب هيبته القضائية والعلمية. وكان القاضي عياض من أوائل من جمع بين الدفاع عن المذهب وتحصينه من الانزلاقات، مع الانفتاح على الاجتهاد المقيد، بعيدًا عن الجمود .
كما تميّز ابن عبد البر الأندلسي، وإن كان من أهل الأندلس، إلا أن تأثيره الكبير في المغرب لا يُنكر، خاصة بكتابه “التمهيد” الذي شرح فيه “الموطأ” وقرّب أصول المذهب بأسلوب يجمع بين الرواية والدراية. وفي العصور اللاحقة، ظهر الشيخ محمد بن العربي الفاسي، والشيخ الفقيه علي بن عبد السلام بن علي التسولي، وابن نانا، والشيخ ميارة الفاسي، الذين قاموا بشرح المتون الفقهية، وتيسير الفهم، وتأصيل الفتاوى، خصوصًا في السياقات الجديدة التي فرضتها تحولات المجتمع والسلطة، كما برز الشيخ المهدي الوزاني في القرن التاسع عشر، بكتبه الفقهية وفتاواه الموسوعية، وعلى رأسها ” المعيار الجديد”، والتي تكشف كيف ظل الفقه المالكي حيًا، قادرًا على مواكبة قضايا الواقع من غير أن يفقد مرجعيته المذهبية.
أما في مجال العقيدة الأشعرية، فقد لمع نجم أبي الحسن الأشعري من المشرق، لكن الأشعرية المغربية أخذت طابعًا خاصًا، عبر شروح وتقريرات علماء مغاربة أمثال الفقيه السنوسي، الذي ألّف في العقيدة الوسطى والصغرى والكبرى، وصاغ المتون التي ما زالت تُدرّس في المدارس العتيقة حتى اليوم، وقد جمع السنوسي بين الدقة العقلية والالتزام بالنقل، وهو ما جعل عقيدته معتمدة لدى العامة والخاصة.
كما كان ابن عاشر من أبرز من أدخل العقيدة الأشعرية إلى التعليم الشعبي من خلال منظومته الشهيرة “المرشد المعين”، التي حفظها طلاب الكتاتيب القرآنية، فغدت الأشعرية جزءًا من الذاكرة الدينية اليومية للناس .
ولم يتوقف التجديد عند هذا الحد، بل قام علماء مثل العلامة الفقيه أحمد زروق بشرح العقيدة وإزالة الإشكالات، من دون إثارة البلبلة أو الوقوع في الإفراط الجدلي. وفي العصر الحديث، واصل علماء أمثال الفقيه علال الفاسي والفقيه محمد الفاسي الفهري والفقيه عبد الله كنون والفقيه القاضي التوطواني محمد العثماني الدفاع عن هذه العقيدة، وتبيان وسطيتها، وقدرتها على تحصين الفكر الإسلامي من الانزلاق نحو التكفير أو التجسيم أو الإلحاد .
وفي جانب التصوف، لم يكن المغرب أرضًا لزهد عابر؛ بل كان موطنًا لتصوف سليم متين، قائم على علم وسلوك وتدرج تربوي . ويُعدّ الفقيه الصوفي أبو مدين الغوث أحد المؤسسين الحقيقيين للطريقة السنية في التصوف المغربي، إذ جمع بين التربية الروحية الصارمة، والارتباط بالشريعة، ما جعل طريقته أساسًا لتصوف شمال إفريقيا.
كما برزت أسماء أخرى عظيمة، مثل مولاي عبد السلام بن مشيش، الذي تتلمذ عليه القطب الشاذلي، والشيخ أحمد زروق، الفقيه الصوفي الذي ألّف “قواعد التصوف”، ليضبط بها مسلك السالكين، وكان الشيخ عبد الله الهبطي وسيدي عبد القادر الفاسي والشيخ الحسن اليوسي من الأسماء البارزة التي زاوجت بين التصوف والعلم، فصارت الزوايا في عهدهم مؤسسات علمية تخرج منها القضاة والوعاظ والصلحاء، وليست مجرد أماكن للخلوة والذكر .
وهكذا، فإن الهوية الدينية المغربية لم تكن مذهبًا فُرض من فوق، ولا تركيبة مصطنعة؛ بل مشروعًا تاريخيًا متكاملاً ساهم في صياغته علماء أفذاذ، كلٌّ في مجاله، وفي زمانه؛ بحيث رحمهم الله جميعا كانوا يواجهون الانحراف بالحجة، ويجددون الخطاب من داخل الثوابت، ويحمون المجتمع من الغلو، لا بإقصاء الآخر فقط؛ بل بتقوية الذات، عبر المعرفة والعلم والتربية .
أما اليوم، فقد وجدت هذه الهوية الدينية المغربية نفسها أمام امتحانات جديدة، أفرزتها العولمة، والهجرات، والتطور التكنولوجي، وصعود التيارات الإسلامية المتطرفة، و “الإسلاموفوبيا” في أوروبا والضغط الإعلامي، وتحديات التطرف والعنف والكراهية..
غير أن ما يثير الانتباه أن الهوية الدينية المغربية لم تنهزم أمام هذه التحديات؛ بل أعادت إنتاج نفسها، بأسلوب حضاري عصري، من خلال مؤسسات التأطير الديني، مثل المجلس العلمي الأعلى بالرباط ، ومعهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، والرابطة المحمدية للعلماء، ودار الحديث الحسنية، ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، التي تشرف اليوم على الحقل الديني بكامله، في احترام لثوابت الأمة المغربية وخصوصياته الدينية دون انغلاق .
وهكذا، تشكّلت الهوية الدينية المغربية كما تتشكّل النقوش على صخرة الزمن؛ لا بضربة واحدة؛ بل بتراكم التجارب، وحنكة الحكام والفقهاء، وحكمة التدرج.. ارتوت من فقه المالكية، وتزكّت بأخلاق التصوف، واستقوت بعقل الأشاعرة، وتحلّت بشرعية مؤسسة إمارة المؤمنين .
وعليه فإن الهوية الدينية المغربية التي تشكلت عبر هذا التاريخ الطويل، تشبه المغاربة تماما في اتزانهم، في تسامحهم، في نزوعهم الدائم نحو التسامح والتعايش والاعتدال والتوسط، وصدق من قال: “من شابه أباه فما ظلم” .