12 أكتوبر 2025 / 11:20

نهضة البلدان بين ثنائية العقل والدين

ياسمين الشاوي

ما أقصده بعنوان هذه المقالة، هو أن العقل البشري النظيف، النير والمستنير، هو صانِع النهضة الاجتماعية بجميع تجلياتها. وهذا أمر لا يحتاج إلى برهنة أو ليس في حاجة إلى تعليل.

النظيف تعني أن العقل لا يتأثر بالإغراء، كيفما كان، مادياً أو معنوياً. والعقل النير لا يحتاج إلى التقليد. بل له القدرة على التفكير المستقل، أي له استقلالية في إبداء الآراء وله، كذلك، استقلالية في مختلف مجالات المعرفة. وفوق هذا وذاك، له القدرة على التَّحليل والإدراك والتقييم، وبالتالي، اتخاذ القرارات والمبادرات. كما له القدرة على اقتراح حلول لبعض المشكلات.. أما العقل المستنير، فهو العقل القادر على توظيف كل الملكات الفكرية السابقة الذكر للتعمق في كنه وجوهر الأمور والربط فيما بينها.

ورجوعا إلى عنوان هذه المقالة، أي “البلدان تنهض بالعقل وليس بالتدين كما يعتقد البعض”، يمكن أن أجزم بأن أي بلد قطع ويقطع أشواطا مهمة في البحث العلمي وفي الإنتاج الفكري، العلمي والتكنولوجي، الشيء الذي جعل ويجعل منه قطباً مزدهرا، متقدماً ومتطوراً اجتماعياً، اقتصادياً وثقافياً، فهو بلد يملك عقولا نظيفة، نيرة ومستنيرة، أي يملك عقولا فكرت وحولت ما فكرت فيه إلى قيمات مضافة ساهمت وتساهم في خلق الثروة، من خلال اقتصاد البلاد.

قد يقول قائل إن النهضة البلدان تخضع لعوامل مختلفة ومتعددة، وعلى رأس هذه العوامل، أن تكون رائدةً في إنتاج المعرفة بجميع مشاربها وأن يكون لها باع طويل في تثمين هذه المعرفة وتحويلها إلى قيمات مضافة تمكن هذه البلدان من أن تكون لها الريادة في إنتاج التكنولوجيات التي تلعب دورا حاسما في تقوية الاقتصاد.

تخضع نهضة البلدان لعوامل مختلفة ومتعددة، منها ما هو اجتماعي، وما هو اقتصادي، ثقافي.. لكن، ما هو الشيء الذي يتحكم في كل هذه العوامل ويفكر فيها وينتحها ويطوعها.. ويربطها بالواقع المحلي والعالمي؟ إنه العقل.

من المعروف مثلا أن بلداناً كثيرة، وخصوصا البلدان النامية، تتوفر على موارد طبيعية متنوعة، علما أن هناك فرقا كبيرا بين تحويل هذه الموارد محلياً إلى قيمات مضافة، يستفيد منها اقتصاد هذه البلدان، وبين بيعها في شكلها الخام إلى بلدان أخرى. الفرق، بالطبع، كبير ولا يحتاج إلى توضيح. علماً أن أسعار هذه المواد الخام لا تتحكم فيها البلدان التي تملكها. بل يتحكم فبها الطلب والعرض وبورصات البلدان الغنية. إذن، من واجب البلدان، وبالأخص، البلدان النامية، أن تعطي أهمية بالغة لبناء الإنسان، لكن الإنسان المتوفر على عقل نظيف، نير ومستنير، قادر على الإبداع وعلى الابتكار.

غير أن حكومات جل البلدان النامية لا تعير أي اهتمام لبناء الإنسان القادر على النهوض بالبلاد والمساهمة في رقيها وازدهارها. ما يهم هذه الحكومات، هو الاستدامة في كراسي السلطة والبقاء فيها أطول مدة ممكنة. وعالمنا العربي الذي ينتمي، اقتصادياً، لمجموعة البلدان النامية، يزخر بهذا النوع من الحكام الذين، بالنسبة لهم، لا شيء يساوي البقاء في السلطة.

وقد يقول قائل آخر إن أحسن دين يهتم ببناء الإنسان، بناءً جيداً، هو الإسلام. نعم وبكل تأكيد، الإسلام، كدين، مؤهل تأهيلاً كاملا لبناء الإنسان، بناء جيدا، لكن الإسلام المنصوص عليه في القرآن الكريم وليس الإسلام المُوازي الذي صنعه الكهنوت. نعم، الإسلام يبني الإنسان ليكون مؤهلا لخدمة البلاد والعباد. لكن، هل هناك شيء يمنع الإنسان، كإنسان، من تشغيل عقله خارج الإسلام أو الدين؟

بالطبع، العقل هبة إلهية وهبها لكل الآدميين بغض النظر عن معتقداتهم الدينية، وذلك ليفكروا به في إطار الدين أو خارجه. ولو كان تشغيل العقل مقترنا بالدين، لخلق الله، سبحانه وتعالى، إنساناً مسلما من البداية وانتهى الأمر. ولهذا، فالإسلام، كدين، يساعد على بناء الإنسان، بناء جيداً. وهذا الإنسان، هو الذي يختار أن يشغل عقله فيما فيه خير للبلاد والناس أو فيما فيه خراب للبلاد والناس.

قد يساعد الدين في بناء الإنسان بناء جيدا، على تقدم البلدان وازدهارها وتنميتها، لكن ليس هو من يصنع هذا التقدم وهذا الازدهار. العقل هو من يصنع هذين التقدم والازدهار. والدليل على ذلك، أن جل البلدان المتقدمة اجتماعياً، اقتصادياً، علمياً، تكنولوجياً، صناعياً.. ليست مسلمة. والدليل الآخر، هو أن مجموعة البلدان الإسلامية، فيها بلدان متخلفة، وفيها بلدان سائرة في طريق النمو، وفيها بلدان صاعدة. لو كان الدين هو صانع التقدم والازدهار، لكانت كل البلدان الإسلامية متقدمة.

الدين وحده، كما يشهد بذلك التاريخ، لا يصنع التّقدم والازدهار، لكن يمكن أن يؤثر عليهما، إما إيجابياً وإما سلبياً. إيجابياً، الدين هو من يصنع القيم الأخلاقية والأعراف الاجتماعية الضرورية للتقدم والازدهار. سلبياً، الدين، وبالأخص، الدين الموازي الذي صنعه الفقهاء، يمكن أن يعرقل مسيرة التقدم والازدهار بشتى الطرق، أذكر من بينها ما يلي:

إذا كثرت، في الدين الموازي، المحرمات والطابوهات والممنوعات. وعندما أتحدّث عن المحرمات، فالمقصود ليس المحرمات المنصوص عليها في القرآن الكريم. بل المحرمات التي صنعها الفقهاء كسماع الموسيقى وإطالة اللباس ما بعد الكعبين إلخ.

– إذا تم تفسير النصوص من طرف عقول متدينٍة مُتطرفة تسعى إلى السيطرة على عقول الناس وإلى تجميدها.

– إذا تم استغلال الدين لأغراض سياسية.

– إذا تم اصطدام بين ما يعتقده علماء وفقهاء الدين معتقدات ثابتة، وبين معطيات الواقع.. وعندما أتحدث عن المعتقدات الثابتة، فالمقصود ليس أركان الإسلام. المقصود، هو ما يعتبره الإنتاج الفكري لعلماء وفقهاء الدين، ثابتاً.

وفي الختام، العقل يلعب دورا حاسما في النهوض بالبلدان، لأنه هو الذي يكون نظرةً أو رؤية عن واقع العالم، من خلال التحليل والمنطق والتّقييم وإدراك ما يروج من أحداث في هذا الواقع.. وعلى ضوء هذه الملكات الفكرية، العقل هو الذي يتخذ المبادرات والقرارات ويتحمل مسؤولية اتخاذها أما الدين، فيلعب دور المحفز الأساسي للتمييز بين الخير والشر ولتكون المبادرات والقرارات المتخذة نافعة للبلاد والناس. بمعنى أن الدين يقود العقل نحو كل ما فيه خير للبلاد والعباد، والابتعاد عن كل ما فيه ضرر لهما.