محمد خياري
كأن الشمسَ تُباركُ الموكبَ الملكي، تُطيلُ وقوفَها في الأفق رغم اقتراب الغروب، لتشهدَ لحظة تتجاوز الزمن، لحظةَ العبور نحو قبة البرلمان، حيث يُفتتحُ الفصل التشريعي الخريفي، لا كإجراءٍ دستوريّ فحسب، بل كطقسٍ سلطاني مهيبٍ يُعيدُ إنتاج الجلالة.
على جانبي الطريق، يقف الشعب الوفيّ كالسدّ المنيع، يُحيّي ملكَه بشوقٍ متراكم، والملكُ يُبادلهم التحيةَ من نافذة السيارة، في مشهدٍ يُشبه استقبالَ نجمٍ سماويٍّ، يُشعُّ دفئًا وحنينًا. إنها لحظةُ ولاءٍ متبادل، تُجسّدُ العلاقةَ الحيّة بين الراعي والرعية، بين الجسد السلطاني والضمير الشعبي.
يظهر الملكُ في جلبابٍ ناصعٍ، وغطاءِ رأسٍ سلطانيٍّ يُغني عن الطربوش المعتاد، في تجلٍّ جديدٍ لصورة أمير المؤمنين، حيث يلتقي اللباسُ بالرمز، وتنبضُ السياسةُ بالروحانية. ليس الزيُّ هنا مجردَ قماشٍ، بل هو بيانٌ بصريٌّ للشرعية، يُعيدُ تشكيلَ الهيبة ويُرسّخُ الجلال في وجدان الأمة.
وعند ولوج القبة السنية، يتحوّلُ المشهدُ إلى طقسٍ شعائريٍّ، يقف فيه النوابُ وقوفَ خشوعٍ، يُحاكي مجالسَ العلم، في تماهٍ بين السلطة الدنيوية والشرعية الروحية. تُفتتحُ الجلسةُ بتلاوةٍ قرآنيةٍ مباركة، تُذكّر بأن السياسةَ المغربيةَ لا تنفصلُ عن المقدّس، وأنَّ الشرعيةَ تُستمدُّ من نور الوحي.
ثم يُلقى الخطابُ السامي، الكلمةُ السلطانيةُ التي تبدأُ بحمد الله والصلاة على النبي، وتُغلفُ بالآيات، فيصبحُ النصُّ حاملًا لهالةٍ من الجلال، مُحمّلًا بتاريخٍ من التشريع والبيعة. النوابُ هنا ليسوا مستمعين، بل شهودٌ على عهدٍ جديد، يُجدّدون البيعةَ الجماعية، ويُؤكدون التراتبيةَ المقدسة بين الملك والأمة.
فالخطابُ الملكيُّ ليس إعلانًا سياسيًّا فحسب، بل هو نسيجٌ مُحكمٌ من الدين والتاريخ والخيال الجماعي، يُرسلُ رسالةً واحدة: الوحدةُ الوطنيةُ مشروعٌ مقدّس، والثقةُ في المؤسساتِ لا رجعةَ عنها. إنه خطابٌ يُعانقُ الأملَ، ويُؤسّسُ لنهضةٍ متجددةٍ، حيث كلُّ كلمةٍ تُصبحُ لبنةً في بناء المستقبل.
وعند مغادرة الملك القبةَ، تتعالى التصفيقاتُ كأنها تهليلٌ وابتهاجٌ، إعلانٌ عن سمو العهد الجديد. وفي القاعة المجاورة، يتجلّى التلاحمُ بين الرؤية الملكية والعمل المؤسساتي، حين يتسلّم الملكُ التقريرَ السنويَّ للبرلمان، في مشهدٍ يُجسّدُ تواصلًا حيًّا بين العرش والمجلس، بين الجسد السلطاني والهيكل الإداري.
وفي مأدبةٍ فاخرةٍ من “بركة سيدنا”، يتناول النوابُ طعامهم، بينما يتجه الملكُ صوبَ شعبه، يُحيّيهم بتحيةٍ مفعمةٍ بالوفاء. هذا المشهدُ يُعيدُ التأكيدَ على أن السلطةَ في المغرب ليست علاقةً سياسيةً جامدة، بل منظومةٌ حيّةٌ تتطلبُ حضورَ الجسد، اللباس، الحركة، والمكان. إنها سلطةٌ تُجسّدُ تاريخًا عريقًا، وأرضًا مباركة، وروحًا سامقة، يُجسّدها الملكُ، ويُحييها الشعبُ.
هذا الطقسُ ليس شكليًّا، بل هو احتفالٌ دائمٌ بسمو السلطة، حيث تتداخلُ دلالاتُ الجلالة والهيبة مع تقاليد السَّلْطَنة المغربية، في منظومةٍ رمزيةٍ تُجدَّدُ بكل حركةٍ، وكل كلمةٍ، لتُتوَّجَ العلاقةُ بين الملك والأمة برمزٍ جديدٍ من القوة والثقة والولاء.
إنها صناعةٌ مستمرةٌ من المجد، تُنحتُ عبر الزمن، بين التاريخ والراهن، بين الأرض والسماء، بين الجسد السلطاني والروح الوطنية، لتظلَّ السلطةُ المغربيةُ علامةً فريدةً، متأصلةً في التاريخ، مواكبةً للحاضر، ومتطلعةً نحو المستقبل.