محمد خياري
يبرز النزق السياسي كأحد الانفعالات الأولية التي ترافق البدايات الثورية، وتُغري أصحاب الطموح الجامح. هو هنا ليس مجرد انفعال عابر، بل هو تعبير عن طاقة غير مُروَّضة، ورغبة في التغيير لم تجد بعدُ لغتها المتزنة ولا أدواتها الحكيمة. كم من سياسي انطلق من ساحات الاحتجاج، يرفع صوته في وجه الظلم، ويجعل من الغضب راية ومن التهور سلاحًا، معتقدًا أن الصراخ يُقيم شرعية، وأن كسر البروتوكول يؤسس زعامة.
في تلك اللحظات الأولى، يبدو النزق وكأنه صدق ثوري، وتظهر الحِدة كأنها شجاعة، ويُخيل للنازق أن التحدي وحده يكفي لزعزعة الباطل. غير أن السياسة، بخلاف ما يُظن، ليست ميدانًا للانفعالات، بل محرابًا للتروي، ومختبرًا للعقل، ومسرحًا للتوازن بين المبادئ والمصالح، وبين الحلم والواقع، وبين الغضب المشروع والحكمة الضرورية. من لم يُهذّب نزقه، ظل أسيرًا لفوضى الشعارات، يلهث خلف مكاسب عابرة، ويصبح صدى لأجندات لا تعرف الرشد، متنازلًا عن الحكمة في سبيل وهج زائل.
هؤلاء السياسيون، وإن بدوا في الظاهر أقوياء، فإنما هم جمر لم يُصَقْل، ونار لم تُصَبّ في قنديل يضيء. يصرخون في المجالس، ويثيرون الجدل في المنابر، لكنهم لا ينتجون رؤية، ولا يُشيّدون مشروعًا. النزق، حين يُترك على حاله، يتحول إلى نمط من الفوضى، وإلى خطاب يفتقر إلى العمق، ويُغري بالتصعيد دون أن يقدم حلولًا. إنه يُشبه برقًا في ليل بلا مطر، يلمع ولا يُثمر، يثير ولا يُقنع، يُحرك الغضب ولا يُهذّب الوعي.
لكن التجربة السياسية، حين تصاحب النزق، تُحوّله إلى نضج. والسياسي الذي يذوق مرارة القرار، ويُدرك ثقل المسؤولية، يُعيد النظر في أدواته، ويُراجع لغته، ويُهذّب انفعالاته. يُدرك أن الزعامة لا تُبنى بالصراخ، بل بالصمت الذي يُربك، وبالصبر الذي يُقنع، وبالحكمة التي تؤسس. يتحول من رجل يثور لأدنى سبب، إلى قائد يُحسن التوقيت، ويُدرك أن الانفعال لا يُقيم دولة، وأن الغضب لا يُثمر إلا إذا نضج في كنف الاتزان.
والأمثلة هنا امامنا كثيرة من سياسيين ونقابيين وإداريين وأمنيين وصحفيين، أصبحوا يقرون أن
السياسة، في جوهرها، فن للتأثير، لا للانفجار. هي هندسة دقيقة للمواقف، وتدبير عميق للمراحل، وتوازن بين المبادئ والضرورات. ومن لم يدرك هذا، ظل يُعيد إنتاج النزق، ويكرس التهور، ويُحوّل الفعل السياسي إلى رد فعل دائم، وإلى حالة من الاستنفار غير المجدي. أما من صقلته الأيام، وهذبته التجارب، فقد ارتقى من النزق إلى النضج، ومن الغضب إلى الحلم، ومن التهور إلى الرزانة.
في هذا السياق، يصبح النزق السياسي بداية لا نهاية، مادة خامًا قابلة للصياغة، وطاقة أولية تحتاج إلى توجيه. هو شرارة في مسار التحول، لا تُثمر إلا إذا احتضنتها التجربة، وصاغتها الحكمة، ووجهها الوعي. ومن هنا، فإن التربية السياسية الحقيقية لا تقوم على قمع النزق، بل على تهذيبه، وعلى تحويله من انفعال إلى بصيرة، ومن صراخ إلى مشروع، ومن تحدٍّ إلى بناء.
ولعل قصة “بن جمر”، ذلك النازق الذي كان يصرخ في وجه الظلم، تُجسّد هذا التحول. عاش في السوق بين الناس، يخلط الحق بالحدة، والغيرة بالتهور، حتى ساقه القدر إلى خلوة في جبل بعيد، حيث التقى بشيخ قال له: “يا بن جمر، إنك نار، لكن النار لا تضيء إلا إذا صارت سراجًا.” فبكى، ومكث في الخلوة، يصوم عن الكلام، ويكتب على الرمل أسماء الله، حتى خرج منها يُدعى الهادي. لم يعد يصرخ، بل صار صمته يُربك، وصبره يُعلّم، وحكمته تؤسس.
وهكذا يُصقل النزق السياسي، لا بالقمع، بل بالخمول التأملي، وبالاحتكاك بالواقع، وبالانخراط في المسؤولية. ومن لم يذق مرارة التهور، لن يعرف حلاوة الاتزان، ومن لم يُصَقْل نزقه، لن يُصِغْ شرعية تُبنى على الحكمة. السياسة ليست ساحة للانفعال، بل مقام للتجلي، ومن لم يتجل في مقام التأنّي، ظل يُعيد إنتاج الصراخ، دون أن يُحدث أثرًا يُذكر.