الصادق العثماني – أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
يختزن التاريخ المغربي حكاية خاصة مع التصوف، حكاية تبدأ من بغداد مع الإمام الجنيد بن محمد البغدادي لتستقر في المغرب هويةً وروحًا وتزكية وسلامة ورحمة..هذه القيم العظيمة الجميلة الذي حملها التصوف الإسلامي قد أصبح أحد أهم المكونات المركزية في البنية الدينية والحضارية للمغرب، وقد ارتبط عبر التاريخ بالنسق الثلاثي الذهبي الذي يجمع بين المذهب المالكي في الفقه، والعقيدة الأشعرية في أصول الدين، والمنهج الجنيدي في السلوك والتربية الروحية . هذا النسق المتكامل مكّن المغرب من تأسيس هوية دينية متوازنة، تقوم على الاعتدال والوسطية، وتجمع بين الانضباط الشرعي والتزكية الروحية، ويعتبر الإمام الجنيد بن محمد البغدادي (ت 297 هـ ) المؤسس الحقيقي للتصوف السني المنضبط، حيث وضع قواعده الكبرى على أساس الالتزام بالكتاب والسنة، رافضاً الغلو والانحراف، ومؤكداً أن “طريقنا هذا مقيد بالكتاب والسنة”.
وقد اختار المغاربة هذا المسلك لكونه ينسجم مع طبيعة تدينهم، القائمة على التوفيق بين النص الشرعي والبعد الروحي، وبين العقلانية الفقهية والذوق الأخلاقي، ولم يكن هذا الاختيار مجرد ميل روحاني؛ بل هو بناء منهجي ساهم في صياغة المشروع الديني المغربي برمته، علما أن التصوف في المغرب لعب أدواراً متعددة تتجاوز بعده الروحي الفردي إلى وظائف اجتماعية وحضارية، فالزوايا الصوفية على سبيل المثال، لم تكن فضاءات مغلقة على ممارسات الذكر والعبادة، وإنما مؤسسات اجتماعية وتعليمية واقتصادية، فقد ساهمت في نشر التعليم الديني ، ورعاية الفقراء والمساكين، وإيواء الغرباء، كما كانت مجالاً لتنشئة الأجيال على قيم الرحمة والمحبة والتواضع والإيثار.. إن الزاوية المغربية تمثل في هذا السياق مؤسسة مجتمعية متكاملة، تؤدي أدواراً متداخلة في التربية والتعليم والإغاثة والتكافل .
وعلى المستوى الخارجي، اضطلعت الطرق الصوفية المغربية بدور محوري في نشر الإسلام في إفريقيا جنوب الصحراء، ومن خلال شبكة من الزوايا والروابط الروحية، تمكنت هذه الطرق، وعلى رأسها التيجانية والقادرية والدرقاوية، من ترسيخ الإسلام في المجتمعات الإفريقية عبر منهج قوامه السلوك الأخلاقي والمعاملة الحسنة والتعايش السلمي، بعيداً عن أسلوب الإكراه أو الصراع، وهذا ما يفسر الارتباط التاريخي الوثيق بين الإسلام الإفريقي والطرق الصوفية ذات الجذور المغربية. أما فيما يتعلق بالسياق السياسي، فقد أظهرت الزوايا المغربية قدرة واضحة على الاندماج في الحراك الوطني، حيث اضطلعت بأدوار مهمة في مواجهة الاستعمار، سواء عبر توفير الدعم اللوجستي للمقاومين أو عبر تعبئة الجماهير روحياً ومعنوياً، وقد شكلت الزاوية، في العديد من المحطات، قاعدة خلفية للمقاومة المسلحة، كما ساهمت في الحفاظ على الوحدة الدينية والروحية للشعب المغربي في مواجهة محاولات الاختراق الثقافي والسياسي للمستعمر الغربي. ومع ذلك، تعرضت مدرسة التصوف عبر تاريخها إلى انتقادات من قبل تيارات دينية متشددة اعتبرت ممارساته بدعاً وخروجاً عن المنهج الإسلامي القويم؛ غير أن الدراسات التاريخية والعلمية تكذب هؤلاء وتثبت أن أبرز أعلام الفكر الإسلامي كانوا من أهل التصوف أو متأثرين به، مثل أبي حامد الغزالي، والعز بن عبد السلام، وابن عطاء الله السكندري وغيرهم كثير؛ لأن التصوف علم كسائر علوم الإسلام، له إجازات متصلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله رجاله الذين جمعوا بين فقه النصوص وفقه القلوب، وفي هذا السياق يقول الإمام القشيري: “إن أول من تسمى بالتصوف هم خواص أهل السنة الذين راقبوا أنفسهم مع الله، وحفظوا قلوبهم عن الغفلة “. والتصوف الإسلامي كما هو معلوم غايته تزكية النفوس وتطهيرها، وإعداد الفرد المسلم ليكون فاعلاً في مجتمعه وفق قيم الرحمة والمحبة والعدل والإحسان . إن المقاربة العلمية للتصوف المغربي تبرز أنه لم يكن مجرد ظاهرة روحانية؛ بل مؤسسة متكاملة أسهمت في بناء المجتمع والدولة، وفي حماية الهوية الدينية من الانحراف، وفي تعزيز الروابط مع العمق الإفريقي. وفي ظل التحديات المعاصرة التي تطرحها التيارات المتطرفة ذات النزعة الإقصائية، يظل التصوف السني المغربي خياراً استراتيجياً لإعادة الاعتبار للبعد الروحي والأخلاقي في التدين، ولإرساء نموذج إسلامي قائم على الوسطية والتسامح وخدمة الصالح العام، ولهذا يقترح العديد من المفكرين المسلمين اليوم ضرورة إحياء مدارس التصوف في عالمنا الإسلامي؛ بل إدراج علومه في المناهج التعليمية والجامعية، من أجل حماية شباب الأمة من براثن الانحلال والعنف..؛ فهذه الثقافة العنيفة التي تنتشر بين شبابنا لا دواء لها إلا بإحياء قيم التصوف: قيم الاعتدال، التسامح، المودة، والسلام بين جميع مخلوقات الله تعالى. إن تعزيز هذه القيم هو السبيل لإعادة الثقة في نفوس أبناء الأمة الإسلامية، وإحياء دورها في الشهود الحضاري والإنساني، وهكذا يظل التصوف، في جوهره الأصيل، مدرسة الطريق إلى المحبة والتعايش، ورسالة خالدة للسلام في عالم تمزقه الصراعات والحروب .
الصادق العثماني – أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتيني