محمد خياري
أعرف كثيرين معجبين بالباحث جون واتربري وكتابه: إمارة المؤمنين ونخبتها السياسية.
الكتاب أصبح قديماً على كل حال، وأنا كذلك معجب به، ففي طياته نظرة حذرة وعقلانية متزنة.
لكن فؤادي يئن دائماً حينما أعيد قراءته، وأجد غياب الروح فيه، كأن بين سطوره أنفاس مهرجان ينتهي إلى قاع الصراع، دون تذوق رحيق البركة في كل خطوة.
فهل يُعقل أن نقرأ تاريخ المغرب وإمارة المؤمنين بعين تعمى عن دفء الذكر الحكيم، وعن حضن الولاء الذي تهمس به القلوب في صمتٍ معانقٍ للسماء؟
لو تأملت نظرة الولي في زواياه السرية، وشاهدت ثنايا الفلاح المغربي يبسط يده إلى السماء، لوجدت أن التاريخ لا يسير وحده في زمانٍ خطي، بل يدور في رقصة كونية تناجي المُلك، ولا تتركه إلا وقد أغفلت جذوة البركة في الوسط.
كيف نُسقط فوق سكون الانتظار عنوان العجز، ونحن نعلم أن الصبر هنا حكاية مديدة، أنمتها أيام العاشقين الأولين؟
الصبر في المغرب ليس استسلاماً، بل هو ربابة الأمل، وصدى النشيد الندي في ليالي الشتاء الطويلة.
وها هو الفلاح المغربي، بلسانه المطبق على تراب الأرض، يعلم أن تحقق الحصاد مرهون بفتح آفاق البركة الغيبية؛ فهو لا يزرع فقط بذرة في الأرض، بل يزرع رجاءً في قلوب تعتقد أن الله سيتنزل بمدده في لحظة لا يدركها غير المؤمنين.
وأنتَ، يا واتربري، يا من حفظت أدوات التحليل السياسي، ألم تسمع عن القوة الساكنة، وعن حكمة الانتظار المقدس؟
فها هو المغرب يهيئ نفسه بهدوء، يفرش طريق الزهر للأرض، لا بتفجير النزاعات، ولا بإملاء القرارات التي تُثقل صندوق الإخفاقات، بل بخطوات صبر وهدوء تنفخ فيهما ريح البركة، حتى تصير المشاريع مثمرة، والحياة صالحة.
لا تُغفل العلاقة المقدسة بين البيعة والولاية؛ فهي ليست صفقة سياسية، ولا توقيعاً على أوراق الحكم، بل هي فعل وجداني يتجلى في القلوب قبل أن يلمسه اللسان، في إجلال تتقن فيه النفوس فن التسليم والرضا، وفن الاحتكام إلى قَدَر يحيط بالملك والراقصين في ساحة السياسة والمجتمع.
في المغرب، التاريخ يروي حكاية الولي والراعي، لا الصراع والخصومة؛ حكمة وسطى تعدل الميزان، وتزيل الغبار عن وجوه الجموع، فتتحول السياسة إلى فن راقٍ تراقص فيه الأرواح على أنغام التصالح.
وفي صمت ذلك التواطؤ السياسي اللين، تظهر حكمة مشرقة؛ تواطؤ ليس بسكوت العجز، بل بسكوت أولي الحكمة الذين يديرون دفة البلاد بما يوازن بين مصالح الناس ويصون السلم الاجتماعي، كشيخ حكيم يدفع بيده الرفيعة عن فتنة تتربص بالجيران، ويُصلح ذات الشمل بين فرقتين محرومتين، فلا تُهدم بيوت، ولا يُغَرَّب أهالي مساجد.
كيف يغيب هذا البعد الروحي من تحليلك أيها الباحث؟
وكيف تقرأ السياسة بلا روح، وتنزل الديمومة من سماء البركة إلى ميدان الحسابات الجافة التي يكسرها الزمن مراراً؟
والأدهى من ذلك، أن المغرب بقي صامداً، متماسك الجذور، حين انهارت دول كثيرة بسبب تهور الساعين إلى قطف الثمار قبل نضجها.
فبينما انقلبت أنظمة عربية في الجزائر وموريتانيا وتونس وليبيا ومصر وغيرها، لم يهتز المغرب، بل تأمل، فالتقط أنفاسه، باسطاً كف الوالي إلى الأرض التي تبث بها صلوات الفلاحين وكلمات التجليات.
حين تميل الصناعة إلى تعضيد ثقافة الأرض، يعانق المغرب فلاحة عتيقة، لا تلغي طموح التقدم، بل تسبح في مدارات المحافظة والحداثة بحلة مغربية تحتفي بزليجها، وغطاء قفطانها، ولغة تسبيحها.
هو بلد لا يفرّط في جماله الروحي، فلا يحيد عن أصالته حتى في القلب النابض بالتقنية، بل يجعل من الأصالة مرشداً، ومن التحديث صدى لكل ذكرى تاريخية عاشها عقلاء المغرب.
ذلك هو القلب المغربي النابض، ذلك هو النبض المؤسساتي الذي يفوق التفاصيل السياسية السطحية؛ إذ يدمج بين الروح والتاريخ، والتقاليد والديمومة، وبين الحلم والصبر، ليرسم صورة لمملكة يحكمها أمير يؤمن أن حكمه فعل رباني روحاني يتجاوز الظاهر، ويصنع من ابتسامة الصبر، ومن صلوات الجموع، مدفأة لأمة تشرق على حزام الزمن البشري برقة الخير واحتضان المعجزات.
في هذا الشأن، يصبح التوتر السياسي المعروف في أقل وجوهه رحلة روحية إلى منازل الحكمة، حيث يرفل الصبر في أزياء الكرامة، ويغدو كل تأخير منطقياً، وقناعات الهدوء وقود التغيير الحقيقي.
هذا ليس عجزاً، بل مقام سامٍ لمعارف الروح ترتقي فيه النفس، وتفتح أمامها كبريات الأبواب.
يا من قرأ كتاب إمارة المؤمنين بمقلتيه، يا من دارت به الأحوال بين إدراكه وتحكيم المنطق الصارم، تأمل أن الصفحة التي يغفلها المؤرخون هي الخطة السرية التي لا يعرفها أحد إلا أهل القلوب، حيث تتلاقى في روض الولاية قصص البركة والصدق بين السلطان والمحكومين، فتكون الدولة المغربية خارجة من رحم الإرادة الإلهية التي تتجلى عبر ثنايا الصبر والسلطة، عبر بيعة لا تُوقَّع على ورق، بل تُصرف في نفوس الأقوياء، وترفعها أنين الأجيال بين النخيل والجبال.
فيا له من واقع خالد، يكيف كل صراع سياسي داخل أروقة ذلك الصمت المديد، الملكي، الذي لا يسمح إلا لزهير الليل بأن يقترب، بينما تتزين قصص الوحدة بهمسات الأوفياء الذين يعلمون أن التغيير الحقيقي لا يأتي بالصراخ، بل بالصلاة.
إنها مدرسة الصبر والمُلك، التي تعطينا عبر الزمن دروساً كيف نزرع في أرض تكسوها خطى البركة، ونسقيها من نبع الصبر الفضي، فلا تذبل إلا لتزهر، ولا تضيق إلا لترتقي.
هذا هو القلب الروحي والسياسي للمغرب، حيث تمتزج في إمارة المؤمنين مقدسات تروي روح الأمة، وتمنحها القدرة على الصمود؛ ليس بالاستبداد ولا بالاحتكار، بل بتلك الحكمة النقية في انتصاب الصبر، وعرس البيعة، وسمفونية البركة التي تنسجها كل نفس في وطن يتشوق إلى الحياة بلسان السلام والاعتدال.