23 سبتمبر 2025 / 23:47

هل ينهار العالم لأننا نسينا الله؟.. رؤية فالنتين كتاسانوف لـ”عصر بلا روح”

هل ينهار العالم لأننا نسينا الله؟.. رؤية فالنتين كتاسانوف لـ”عصر بلا روح” على ضوء كتابه “العالم في عيون القديس نيقولا الصربي”  

تحرير: دين بريس

في عالم يعاني من أزمة روحية خانقة خلف مظاهر التقدم المادي، يبرز فالنتين كتاسانوف بوصفه أحد الأصوات الفكرية النادرة التي تجمع بين التحليل الاقتصادي العميق والرؤية الروحية النافذة. كتاسانوف، وهو اقتصادي روسي مرموق وأستاذ جامعي سابق في جامعة موسكو للعلاقات الدولية، تميز بتحول فكري جذري من داخل النظام الليبرالي العالمي إلى موقع نقدي حاد له، مبرزًا الأبعاد غير المرئية للأزمات الاقتصادية، تلك التي ترتبط بفقدان البوصلة الأخلاقية والروحية للإنسان الحديث. ولعل من أبرز تجليات هذا المنظور المختلف كتابه المعنون: “العالم في عيون القديس نيقولا الصربي”، الذي لا يقدم فيه مجرد دراسة لشخصية دينية فكرية، بل يرسم من خلاله خريطة فكرية عميقة لفهم العالم اليوم من خلال عيون من يرى ما وراء الظاهر.

الكتاب، في جوهره، ليس سيرة للقديس نيقولا الصربي بقدر ما هو تأمل في أفكاره وكتاباته وتحليل لطريقته في فهم التاريخ والمجتمع والسياسة والروح. القديس نيقولا، الذي عاش في النصف الأول من القرن العشرين، كان مفكرًا أرثوذكسيًا ورجل دين صربيًا من الطراز الفريد، جمع بين الحس الفلسفي العميق والرؤية النبوية، وبين حب الإنسان ونقد الحضارة الغربية التي رآها منقطعة عن مصدرها الإلهي. في نظر كتاسانوف، يمثّل هذا الراهب الصربي نموذجًا نادرًا لرؤية كونية تنطلق من الإيمان العميق، لكنها لا تنغلق على الذات، بل تخترق الزمن لتقرأ الحاضر بلغة الروح.

في هذا السياق، يقدم الكتاب قراءة دقيقة ومؤثرة لتفسير القديس نيقولا للأحداث الكبرى. فالحروب، والأزمات الاقتصادية، والانحلال الأخلاقي، ليست عنده مجرد نتائج لسياسات خاطئة أو أزمات داخلية، بل هي علامات على انحراف الإنسان عن القوانين الإلهية التي تحكم الوجود. يرى أن التاريخ ليس محض صيرورة عمياء، بل مسار أخلاقي تتحكم فيه النوايا، والذنوب، والتوبة. وبهذا المعنى، تصبح التوبة في نظره فعلًا حضاريًا لا فرديًا فقط، إذ لا خلاص لأمة أو شعب دون عودة جماعية إلى الله.

يستعرض كتاسانوف في كتابه كيف أن القديس نيقولا لم يكن يتحدث عن الأخلاق أو الدين بمعناهما الوعظي، بل بوصفهما أساسًا لفهم التاريخ ذاته. الحضارة الغربية، كما يصفها نيقولا، فقدت روحها حين قررت أن تستبدل الله بالإنسان، والوحي بالعقل، والنعمة بالقانون، والرحمة بالمنفعة. ومنذ لحظة الانفصال هذه، دخلت في مسار انحدار لا يمكن إيقافه إلا بالعودة إلى الأصل الروحي. هذا النقد لا يأتي من منطلق عداء حضاري، بل من رؤية رحبة تتألم لما آلت إليه حضارة كانت يومًا حاملة للإنجيل، فإذا بها اليوم عبء على الروح.

من القضايا التي يتطرق إليها الكتاب أيضًا مكانة روسيا وسيربيا في هذا المشهد العالمي. فالقديس نيقولا، بوصفه صربيًا ومفكرًا أرثوذكسيًا، كان يرى أن لهذه الأمم، التي لم تنفصل بالكامل عن جذورها الروحية، مسؤولية خاصة في حمل شعلة الإيمان وسط عالم يتهاوى روحيًا. ويرى كتاسانوف أن هذا البعد لا يزال حيًا، وأن إعادة إحياء الوعي الروحي في المجتمعات الأرثوذكسية يمكن أن يشكل نواة لتجديد أوسع، إذا ما تجاوزت هذه الشعوب تبعيتها الثقافية للمركز الغربي.

ما يجعل هذا الكتاب مختلفًا ليس فقط موضوعه، بل طريقته في الربط بين القضايا الروحية والتاريخية، بين الاقتصاد والدين، بين الفكر والواقع. فكتاسانوف، القادم من خلفية اقتصادية صارمة، يدرك أن ما يبدو أحيانًا شأناً “روحياً” بحتًا، إنما يحمل في طياته تأثيرًا مباشرًا على مسار التاريخ والحضارة. من هنا تأتي أهمية استعادته لصوت مثل صوت القديس نيقولا، لا كحنين ماضوي، بل كضرورة معرفية وأخلاقية لفهم ما نحن فيه، وربما للبحث عن مخرج منه.

في زمن تتكاثر فيه القراءات المادية للعالم، وتُحاصر فيه الروح في هوامش الحياة، يقدم هذا الكتاب نَفَسًا آخر، يذكّر القارئ بأن فهم العالم لا يمكن أن يكتمل دون بعده الغائب: الروح. ومن خلال هذا الاستحضار العميق لفكر القديس نيقولا الصربي، يعيد فالنتين كتاسانوف للوعي المعاصر شيئًا من اتزانه، ويطرح سؤالًا كبيرًا لا يزال معلقًا: هل يمكن للعالم أن يشفى دون أن يؤمن من جديد؟