محمد التهامي الحراق
أن تلتفت رسالة ملكية إلى حدث تاريخي نبوي متفرّد أمرٌ غني بالأبعادِ والإشارات. إن هذه الالتفاتة لا تقف عند الاهتمام بتاريخ محدَّد، هو مرور خمسة عشر قرنا على ولادة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، بما هو عدٌّ زمني في مسار ترقيمي ممتد؛ بل هي لحظة تاريخية بالمعنى القوي والبحر للتوصيف؛ لحظة لها عمقٌ حضاري وروحي وفلسفي وأخلاقي، يحتاج منا إلى تفكّر رصين، وتساؤلٍ جاد وجدي، وتحليلٍ متئد ونافذ لإدراك بعض معانيه ومغازيه. الالتفاتة، من جهة، إحالةٌ على وحدة معيارية مرجعية ليس فقط لأمة الاستجابة، أي للمسلمين في عالم اليوم، بل هي إحالة على وحدة معيارية عالمينية هي موئِلُ استلهام واستمداد ومحاورَة واستنارة من لدن أمة الدعوة؛ أي العالَم أجمع، بشرط أن يطرح هذا العالم على النموذج المحمدي بحصافة وحُسْنِ اقتراب أسئلته الوجودية والمعرفية والروحية والأخلاقية وغيرها. قال تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” (الأنبياء، 106)؛ ذلك أن الأفق الرحموتي الكوني الذي يمثله رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكتنز من الإنارة ما تحتاجه البشريةُ اليوم أكثر من أي وقت مضى لمعالجة إحراجاتها ومشاكلها على مختلف الأصعدة؛ ولا سيما منها تلك المتصلة بالأسئلة الوجودية والمعرفية والروحية والأخلاقية؛ والتي يُشَكّل الارتباكُ في التعامل معها واحدا من أبرز أسباب الأزمات الراهنة التي تظهر في مجالاتِ العلم والسياسة والاقتصاد والاجتماع والإعلام والتعليم…إلخ.
إن هذه الالتفاتة تقولُ للإنسانية جمعاء، إن ثمة نموذجا روحيا وأخلاقيا كونيا تمثله الرحمة المحمدية العالمينية، لم تتمَّ بعدُ محاورتُه بالشكل الأرضى الذي يمكنُ أن يجعله منيرا لكثيرٍ من الأحْلاكِ والأزماتِ التي تطوق الإنسان المعاصر، كما هو شأنُ أزمةِ فقدان اليقين، وأزمةِ فقدان المعنى، وأزمةِ فقدان المعيار. إنها كذلك التفاتة نقدية لوضع الإنسان المعاصر في ضوء الوحدةِ المعيارية المحمدية الكونية، مثلما هي دعوةٌ لإعادة اكتشاف هذه الوحدة من زاوية أسئلةِ الإنسان المعاصر وقضاياه المختلفة في التعامل مع العلم والتقنية والبيئة والهجرة والفقر والعلاقات بين الأمم والأديان والثقافات…إلخ. كما أنها التفاتة نقدية لجهتين متقابلتين؛ تلك التي تُلْغِي الدين من الإسهامِ في حلِّ تلك المعضلات العالمية، أو تلك التي تسيء تقديم المقترَح الإسلامي في السياق المعاصر، حين تشوِّه صورةَ رسول الإسلام، وتُخْفِق في تبليغ الأفق الكوني لأنموذج “الإنسان الكامل” الذي تبسطُهُ مكارمُ رسولِنا الأكرم وأخلاقُه وشمائلُه وكمالاتُه.
يسري هذا وغيرهُ بين سطورِ الرسالةِ الملكية حين تتوجَّه بالخطاب أولا لعلماءِ الأمة، ممثَّلين في المجلس العلمي الأعلى، مما يعني توجيها تسديديا لطبيعةِ عمل العلماء في مواجهة الغلوَّين الإقصائي للدين والتحريفِي له. وهو ما يتجلَّى في المحاورِ المفصَّلة التي على العلماء أن يعتنوا بها؛ لنقرأ مثلا في المحور الأول كما تبسطه الرسالة: “وبهذا الصدد نود الإشارة عليكم بمحاور تندرج في هذا الاتجاه: أولا: إلقاء الدروس والمحاضرات وتنظيم الندوات العلمية في المجالس والمدارس والجامعات والفضاءات العامة، والقيام بالتواصل الإعلامي الرصين للتذكير والمزيد من التعريف بالسيرة النبوية الغراء وذلك بأسلوب يناسب العصر ويمس عقول الشباب خاصة، مع التركيز على أن أعظم ما جاء به صلى الله عليه وسلم، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، هو دين التوحيد، وهذا الإحياء مناسبة سانحة للعلماء لكي يُبيِّنوا للناس أن الترجمة الأخلاقية للتوحيد، في عصرنا، والتي يمكن أن يفهمها الجميع، هي تربية الأجيال على التحرر في حياتهم الفردية والجماعية من الأنانية”.
إن الأمر هنا لا يتعلق فقط بتنظيم دروسٍ ومحاضرات وندوات، مما دأبتْ عليه المؤسسات العلميةُ في بلدنا في الفضاءات العلمية والدينية والإعلامية، بل يتعلق أساسا بـ” التعريف بالسيرة النبوية الغراءِ وذلك بأسلوب يناسب العصر ويمس عقول الشباب خاصة”، وببيان “أن الترجمة الأخلاقية للتوحيد، في عصرنا، والتي يمكن أن يفهمها الجميع، هي تربية الأجيال على التحرر في حياتهم الفردية والجماعية من الأنانية”؛ أي أن الأمر يتعلق باغتنام هذا الحدث للاجتهاد في الاستمداد من أنوار المرجعية المحمدية الخاتمة، لتجديد تقديم ما تكتنزه من معان وقيم وإنارات تجيبُ على جمٍّ من إحراجات الإنسان المعاصرّ؛ وذلك بلغة وأسلوب يتلاءمان مع خصوصية التلقي المعاصر الذي يمثله الشبابُ أساسا، وكذا بلغة وأسلوبٍ يسهمان في تحرير الناس على المستوى الأخلاقي، وإخراجهم من أسر الأنانيات الفردية والجماعية التي تهدد أمنهم الروحي، في عالَم تُذْكي فيه الاستهلاكيةُ المتوحشة هذه الأنانيات، وتزجُّ بها في أتون صراعات نفسية ومادية ضارية بلا أفُق.
ثم إن هذا الأمن المنشود من الاستمداد الروحي من السيرة النبوية في أفقها الكوني، لا يمكن أن يتَّخِذ معنى عمليا، ولا شرعيةً في القولِ والدعوة، دون التذكير بكون هذا النداء صادرا عن مؤسسةِ إمارةِ المومنين، باعتبارها عنوانا للانتسابِ إلى البيت النبوي الشريف من جهة، وباعتبارها ساهرةً على حماية إرثِ النبوة في هذا البلد الأمين من جهة ثانية. لذلك تم توجيه المجلس العلمي الأعلى لإبراز عناية هذه المؤسسة عبر تاريخها بالسيرة النبوية وبالحديث النبوي الشريف؛ وذلك من خلال دعوة الرسالة الملكية إلى التعريف بالجهود الخاصة لأمير المومنين وجهود ملوك الدولة العلوية الشريفة “في العناية بتركة النبوة، ولاسيما في ما يتعلق بالحديث الشريف”، وبهذا الصدد دعت الرسالةُ المجلسَ العلمي الأعلى إلى “إصدار نشرة علمية لكتاب السلطان سيدي محمد بن عبد الله “الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية “.
كما دعت الرسالة المجلتاح الاستمداد وعم في ات روحيةة والمديح النبوي ومتون الصلوات على الرسول السَ إلى إبراز جهودِ المغاربة في العناية بالأمانات التي بُعثَ من أجلها الرسول صلى الله عليه وسلم، والواردة في قوله تعالى: “هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ” (الجمعة، الآية2). وفي طليعة هذه العناية، الاهتمامُ بالقرآن الكريم وبالتزكية، و”ذلك من خلال ما نبتَ في أرضِ المغرب عبر العصور من مؤسسات التربية الروحية المسماة بطرق التصوف، ومعلوم أن الجوهر الذي تقوم عليه تربيتها هو محبة الرسول الذي تنتهي إليه أسانيد هذه الطرق في الدخول على الله من باب الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في إخلاص العبودية لله”. من هنا جاءت دعوة الرسالة الملكية إلى تظهيرِ اهتمام المغاربة بالمديح النبوي، وتفننهم في تأليف الصلواتِ على الرسول الأكرم، وكذا اهتمامهم بالتصنيف في السيرة النبوية؛ مع دعوة خاصة إلى “الإعداد العلمي اللائق لنشرة محقَّقة لكتاب القاضي عياض الذي عنوانه ” كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى “، وهو كتاب السيرة النبوية الذي اشتهر به المغرب في العالم قبل الاشتهار بكتاب ” دلائل الخيرات “”.
ولم يفتِ الرسالةُ الملكية أن تنبّه المجلس العلمي الأعلى إلى توجيه الناس نحو الإكثار من الصلاة على النبي الكريم، وتنظيمِ تجمعات روحية لأجل ذلك، تُتَوَّج بالدعاء الصالح لأمير المومنين وللمغرب والمغاربة. وهو تنبيهٌ يقرن بينَ المعرفة والتقوى؛ بين العلم والروحانية؛ بين السؤال والحالِ؛ بين التجاوب مع أسئلة العقل وعطش الروح للمعنى؛ بين تقوية الفعل الحضاري بالسعي نحو إبراز معالم كمالات النبي الخاتم في أفقها الكوني، وبين تثمير الإرث النبوي في أخلاق الناس أفرادا ومجتمعا، وتغذية الروح بالمعنى، وترسيخِ محبة الأسوة المحمدية في القلوب؛ ذلك أن المحبة هي مفتاح الاستمداد وعنوان الاتباع والاقتداء والاهتداء بالقدوة المحمدية الخاتمة. أضف إلى ذلك، أن الرسالة الملكية، وهي تدعو إلى إشراك مغاربة المهجر وإخواننا الأفارقة في هذا الاحتفاء، إنما تشير إلى الأفق المفتوح لهذه الدعوة الملكية، مثلما تشير بتواضع إلى النَّفَس الكوني لهذا الاستنهاض الاستمدادي من الكمال المحمدي العالميني.
وإجمالا، وبعيدا عن استنفاد ما في هذه الالتفاتة من أبعادٍ وإشارات، فإن الرسالة الملكية الداعيةَ إلى الاحتفاء بمرور خمسة عشر قرنا على ميلاد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، نقطةٌ مفصلية لإعادة قراءةِ علاقةِ المسلمين بنبيهم على مدى هذه القرون الخوالي، مثلما هي دعوةٌ لتجديد فهم السيرة النبوية العطرة في ضوء الأسئلة المستجدةِ واهتماماتِ الشباب وإحراجاتِ السياق المغربي الخاص والسياق العالمي الإنساني، على مختلف المستويات الوجودية والمعرفية والروحية والأخلاقية. إننا لسنا هنا إزاء رسالة عادية عابرة، بل إزاء مشروعٍ حضاري ينطلق من الأنموذج المحمدي لصياغة أفق روحي وأخلاقي كفيلٍ بمصالحة المسلم المعاصر مع دينه وزمانه، وكفيلٍ بأن يقدم له مفاتيح تُقدِرُهُ على تجديدِ النهل من الكمال المحمدي ما به يمكن أن يُسهم بقوة وإبداعية في الفعل الحضاري في السياق الراهن. يبقى فقط على علمائنا الأفذاذ أن يجتهدوا في بلورة مضامين هذه الرسالة المرجعية في قراءاتٍ ومشاريعَ ورؤى وبرامج ومخططات عملية منتِجة، تجمع بنجاعة بين الإبداع في الفهم والفعالية في التنزيل، وتغتنم هذه الفرصة الاستثنائية لتحرير طاقات إبداعية خلاقة في تثمير هذا المشروع علميا وروحيا وأخلاقيا واجتماعيا وثقافيا وجماليا، حتى نستطيع بذلك أن نؤسس لمرحلة جديدة في الاستمداد النوراني من سيرة النبي الخاتم بما يجيب عن أسئلتنا، وبما يسهم في إنقاذ الإنسان المعاصر من جم من أزماته هنا والآن.