دين بريس
استغل تنظيم “الإخوان المسلمين” الفضاء الرقمي مبكرا، فحول وسائل التواصل الاجتماعي من فضاءات للتسلية وتبادل الأخبار اليومية إلى ساحات صراع موازية لا تقل خطورة عن ميادين المواجهة التقليدية.
وتعمل هذه الاستراتيجية وفق خطط محكمة تقودها “جيوش إلكترونية” على مدار الساعة، تهدف إلى بناء روايات بديلة وإغراق الرأي العام برسائل متشابهة مصوغة بدقة لتبدو كإجماع شعبي، بينما هي في الواقع حملات منظمة تعمل في الظل.
وتعمل هذه الجيوش وفق تقسيم صارم للمهام: فرق تصوغ الشعارات والبيانات، وأخرى تفبرك الصور والفيديو، وحسابات وهمية تختص بإعادة النشر وخلق الضجيج الرقمي، وبهذه الآلية يواجه المتصفح وابلا من المحتوى المكرر الذي يوهم بوجود موجة احتجاجية أو إجماع شعبي، بينما الحقيقة أنها عملية تضليل منظمة وممنهجة.
ويصف “هشام النجار”، باحث مصري متخصص في قضايا الإسلام السياسي والتطرف، هذه الآلية بأنها “إعلام موازٍ قادر على صناعة واقع افتراضي يبعد الناس عن الحقائق الملموسة”.
ويتجسد هذا بوضوح في الحملات التي تلت فض اعتصام رابعة عام 2013، حين أغرقت حسابات مرتبطة بالتنظيم منصات التواصل بمقاطع قديمة من سوريا والعراق جرى تقديمها على أنها أحداث القاهرة، وأثارت مشاهد الدماء والدمار التي لا علاقة لها بالمكان أو الزمن الأصليين تعاطفا دوليا واسعا، قبل أن يتم كشف حقيقتها.
وفي العام التالي أطلق الإخوان حملة “يناير مستمر”، مستخدمين صورا لمظاهرات قديمة أو لاحتجاجات من دول أخرى في محاولة لإحياء صورة ثورة لم تكن موجودة على الأرض.
وبين عامي 2016 و2018، ركزت حملات أخرى على تشويه صورة الجيش المصري من خلال نشر صور من غزة وسوريا نسبت زورا إلى سيناء، وقد أعلن تويتر لاحقا إغلاق عشرات الحسابات التي قادت هذه العمليات بعد أن تبين أنها شبكات منسقة.
وامتدت التجربة إلى دول أخرى، مثلا في تونس عام 2019 رصدت حسابات ممولة مرتبطة بالإخوان استهدفت التشهير بمنافسين في الانتخابات، وفي السودان بعد 2018 انتشرت شائعات متكررة عن انقسامات داخل الجيش، غذت حالة من عدم الثقة وزادت من هشاشة الوضع السياسي.
ويلاحظ أن هذه الحملات استندت إلى أسلوب انتحال الشخصيات، بإنشاء حسابات وهمية تحمل أسماء صحفيين وكتاب معروفين لإضفاء مصداقية زائفة على الرسائل، كما اعتمدت على آلية التضخيم المصطنع، إذ تتفاعل عشرات الحسابات المزيفة فيما بينها لتصعيد وسوم سياسية مثل #يسقط_حكم_العسكر إلى قوائم الترند، بما يوهم بوجود موجة جماهيرية عارمة.
وتجاوزت معركة الإخوان حدود الفضاء الرقمي إلى منصات الإعلام الخارجي، فتحولت على سبيل المثال قنوات مثل “مكملين” و”الشرق”، التي تبث من خارج مصر، إلى أدوات رئيسية لترويج سرديات التنظيم، حيث يجري إعادة تدوير مقاطعها القصيرة بكثافة على فيسبوك وتويتر.
وعلى المنوال نفسه، أسهمت مواقع إلكترونية مثل “عربي21″ و”الحرية بوست” في نشر مقالات وتقارير تكرر الرسائل الدعائية ذاتها، ويؤكد خبراء التقنية أن التنظيم يتقن استغلال خوارزميات المنصات الرقمية، عبر ضبط توقيت النشر وحجم التفاعل لضمان دفع المحتوى المضلل إلى صدارة التداول.
وتشير الباحثة “سارة عبد الجليل” إلى أن التنظيم يراهن على مخاطبة العاطفة بالصور الإنسانية والشعارات الدينية، باعتبارها أسرع الطرق لتوسيع دائرة الانتشار.
وخلفت هذه الحملات آثارا ملموسة تتجاوز حدود الفضاء الرقمي، إذ أضعفت الثقة في الإعلام الرسمي، وعمقت حدة الاستقطاب بين فئات المجتمع، وأجبرت الحكومات على التعامل مع أزمات مصطنعة صممت بعناية لإرباك المشهد، بل إن بعضها ترك انعكاسات مباشرة على الاقتصاد عبر إشاعة أخبار عن انهيار العملة أو انسحاب الاستثمارات.
ويشير الباحث “محمد العسلي” إلى أن الخطر الجوهري يكمن في “تحول جزء من المجتمع إلى العيش داخل واقع بديل مزيف، ما يعقد إمكانية بناء توافق وطني ويضاعف صعوبة إدارة الأزمات”.
وأظهرت تجارب دولية أن التصدي للتضليل الرقمي يحتاج إلى أدوات متنوعة، فإستونيا مثلا سارعت بعد الهجوم الإلكتروني سنة 2007 إلى إنشاء مركز وطني مختص بمكافحة الأخبار الكاذبة، فيما اعتمدت فرنسا مسارا قانونيا يمنح المحاكم سلطة التدخل لوقف الشائعات خلال الفترات الانتخابية، في حين اختارت الهند التركيز على التربية الرقمية عبر إدماج برامج لتدريب الطلاب على التحقق من الصور والفيديوهات.
وتدل هذه التجارب على أن المواجهة الناجعة لا تتحقق إلا عبر مقاربة شمولية، تقوم على إعلام مهني يتسم بالسرعة والشفافية، ومجتمع يتمتع بوعي نقدي يتيح له التمييز بين الحقيقة والتضليل، وحكومات تعتمد الانفتاح لتفادي الفراغ المعلوماتي، مع تعزيز ترسانة قانونية رادعة، وتفعيل تعاون دولي قادر على إلزام المنصات بإغلاق الشبكات الممنهجة.
إن الوصول إلى هذه المعادلة قد لا يقضي نهائيا على التضليل، لكنه يخلق درعا يحول دون سقوط المجتمعات بالكامل في شراك الأكاذيب الممنهجة، ومع ذلك، يظل الصراع قائما حول من يمتلك القدرة على حماية الحقيقة في زمن غدت فيه المعلومة أخطر الأسلحة بيد الفاعلين السياسيين وغيرهم.