محمد أومليل
أقصد إعادة النظر في عملية التنقيط والتشكيل للمصحف؛ كون ذلك اجتهادا صدر من قبل بعض أهل العلم (أبو الأسود الدؤلي، يحيى بن يعمر، نصر بن عاصم الليثي، الخليل بن أحمد الفراهيدي)، في عهد الحكم الأموي بأمر من معاوية، ثم بعده عبد المالك بن مروان ومعه الحجاج بن يوسف الثقفي، بالإضافة إلى تحسينات مثل: التجزيئ والتقسيم والترقيم وعلامات الوقف..
هناك أدلة مزدوجة، على أن مصحف عثمان كان دون تنقيط وتشكيل، “مروية” في كتب علوم القرآن وكتب الحديث، و”مادية” ملموسة ومرئية على شكل مخطوطات محفوظة في عدة متاحف في بلدان إسلامية وبلدان مسيحية، على سبيل المثال: مصر، تركيا، اليمن، سمرقند، بريطانيا،، فرنسا، إيطاليا، ألمانيا.
ومما يدل على أن اللغة العربية، في العهد النبوي، كانت خالية من التنقيط والتشكيل؛ مجموعة برديات تم رصدها خالية من التنقيط والتشكيل بعضها يرجع تاريخها إلى سنة 643 ميلادية توجد بالمكتبة الوطنية النمساوية بفيينا، بالإضافة إلى نقش النمارة يرجع تاريخها إلى سنة 628 ميلادية موجودة بمتحف اللوفر بباريس.
ما تقدم ذكره من “أدلة مادية” على سبيل المثال لا الحصر..
في عصرنا الحالي أصبحت “أدلة المرويات” خاضعة ل”الأدلة المادية” إثباتا أو نفيا.
نقصد ب”االأدلة المادية” كل ما تم رصده من قبل العلوم الحديثة مثل: علم المخطوطات وعلم الخطاطة والحفريات وكربون 14..، إلى غير ذلك من العلوم الحديثة التي تعد أدوات الاختبار العلمي.
بعض أهل العلم المتأخرين، من السنة والشيعة، ينادون بإعادة تنقيط وتشكيل المصحف وفق السقف المعرفي المعاصر والاستقراء والسياق ضمن القرآن، كون ما هو حاصل ضمن المصاحف الحالية مجرد اجتهاد، بشري يصيبون ويخطئون، قابل للمراجعة والنقد والاستدراك والتأكيد والتفنيد.
من ضمنهم السيد كمال الحيدري، مما قاله:
” كل القراءات خبر آحاد تفيد الظن ولا تفيد اليقين.. القراءات التي بين أيدينا ظنية وليست قطعية.. وقابلة للاختلاف، على سبيل المثال قوله تعالى:
(إنما المشركون نجس) كلمة (نجس) تم تشكيلها بأربعة أوجه!
وقس على ذلك الكثير من الكلمات التي لها عدة أوجه من حيث التنقيط والتشكيل.
ومع ذلك كل مفردات القرآن محل إجماع ولا نقاش حول ذلك، لكن هناك اختلاف في التنقيط والتشكيل الذي هو اجتهاد بشري، كذلك نحن لدينا الحق في أن نجتهد في حدود التنقيط والتشكيل وفق ما يمليه الاستقراء والسياق ومقاصد القرآن الكبرى “(1).
ومن أهل السنة الدكتور عبد الجليل الگور: ” فی تقدیری الشخصي إمكان استبدال “الرسم العثماني” قد حسمه العلماء منذ القدم، فهو رسم ليس توقيفيا؛ ثم إن استكماله بكل ما يجعل نص “القرآن” يتلى على أحسن وجه يعد أيضا محسوما بدليل كل ما أضيف إليه عبر القرون (نقط الإعجام وحركات الشكل وعلامات القراءة كلها أضيفت إليه بشكل متدرج) إذ ما أجاز تلك الإضافات فهو يجيز بالأحرى غيرها “(2).
وأسماء أخرى من السنة والشيعة ينادون إلى إعادة النظر في التنقيط والتشكيل، بالإضافة إلى التقويم النحوي والإملائي.
مما ينبغي إعادة النظر فيه، حسب بعض المهتمين بالموضوع، هناك عدة أمثلة تمت قراءتها من جديد وفق ما يمليه السياق (السياق معيار أساسي في عملية التنقيط والتشكيل)، من ضمنها:
” وجاءوا أباهم عشاء يبكون “؛
” وجاءوا أباهم غشا يبكون “؛ (غشا) عوض (عشاء).
*****
” ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم “؛
” ولا تتخذوا ايمانكم دجلا بينكم “؛ (دجلا) عوض (دخلا).
*****
” ويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون “؛
” ويل للمضلين الذين هم عن صلاتهم ساهون “؛ (المضلين) عوض (المصلين).
وردت الآية في سورة الماعون تتضمن وصف المضلين (الذين هم على ضلال ويمارسون التضليل)؛ سياق السورة يرجح “المضلين” على “المصلين” لأسباب عدة من ضمنها سياق السورة: ” أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين “؛
بعد ذكر تلك الأوصاف المذمومة، ورد قوله تعالى: ” فويل للمضلين “؛
ثم استأنف الحديث عن ذكر أوصاف المضلين: ” الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون، ويمنعون الماعون “.
السورة كلها تتحدث عن أوصاف المضلين (أهل الضلال والتضليل) الكلمتان وردتا في القرآن الكريم غير ما مرة.
الدليل الثاني، بعد دليل السياق، ورد في القرآن الكريم ذكر “المصلين” في سياق إيجابي ومحمود:
” إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين، الذين هم على صلاتهم دائمون ” (المعارج 19 وما بعدها).
” ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين ” ” (المدثر 43).
كلمة المصلين وردت مرتين في سياق إيجابي ومحمود.
دفعا للتناقض في القرآن؛ فكلمة “المضلين” (المذمومة) أولى من كلمة “المصلين” (المحمودة) في (سورة الماعون).
والله تعالى أعلى وأعلم.
المراجع:
-1، كمال الحيدري، هل تشكيل وتنقيط آيات القرآن من المسلمات اليقينية؟، بالمعنى لا باللفظ الدقيق. اليوتيوب.
-2، عبد الجليل الگور، من المنادين بتجديد الإملاء الحديث له كتاب حول ذلك: “ملحمة انتقاض اللسان العربي: لسان العرب القلق”.