10 سبتمبر 2025 / 06:21

من أجل براديغم جديد لفهم التراث

بوشعيب شكير
يُشكّل التراث في الثقافة العربية-الإسلامية أحد أكثر المفاهيم إشكاليةً وإثارةً للجدل. فقد ظلَّ النظر إليه محكوماً بثنائية متعارضة: من جهة، مقاربات تقديسية تنظر إليه باعتباره نصاً مغلقاً لا يقبل المراجعة؛ ومن جهة ثانية، مواقف راديكالية تدعو إلى القطيعة معه باعتباره عائقاً أمام التحديث.

غير أن التحولات المعرفية والأنثروبولوجية المعاصرة تفرض اليوم البحث عن براديغم جديد، يتجاوز هذه الثنائية، ويعيد صياغة علاقتنا بالتراث في أفق إبداعي مفتوح.

إن أول مبدأ لهذا البراديغم يتمثل في التاريخية والسياقية. فالنصوص والظواهر التراثية لم تنشأ في فراغ، بل تبلورت ضمن شروط اجتماعية وثقافية محددة.

ومن ثم، فإن فهمها يتطلب استحضار أفقها التاريخي دون إسقاط الحاضر عليها أو التعامل معها بوصفها مطلقاً متعالياً. لكن هذه القراءة التاريخية لا تعني الانغلاق في الماضي، بل فتح النصوص على أسئلة الحاضر وإمكاناته.

ثانياً، يقوم البراديغم الجديد على التعددية المنهجية. فالمقاربات السابقة ظلت أسيرة أدوات محدودة: إما العقلانية النقدية كما عند محمد عابد الجابري، أو البعد الأخلاقي التداولي كما عند طه عبد الرحمن، أو التفكيك الألسني والأنثروبولوجي عند أركون.

المطلوب اليوم هو شبكة منهجية هجينة، تستفيد من اللسانيات والهرمنيوطيقا والعلوم الاجتماعية، وتستثمر أيضاً تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات في دراسة المتون التراثية، بما يفتح أفقاً جديداً للبحث العلمي.

ثالثاً، يتأسس البراديغم الجديد على فكرة التداول الإبداعي. فالمطلوب ليس استعادة التراث كما هو، ولا إلغاؤه، بل إعادة إنتاجه من خلال حوار حي مع الحاضر. التراث يصبح مورداً معرفياً وأخلاقياً يمكن توظيفه في قضايا معاصرة مثل العدالة البيئية، أخلاقيات العلم، وحقوق الإنسان.

بهذا المعنى، يتحول التراث إلى مختبر لإبداع البدائل، لا مجرد موضوع للتقديس أو الجدل.

رابعاً، يسعى هذا البراديغم إلى تأصيل الكونية. فبدل الاقتصار على جدل الهوية والأصالة والمعاصرة، يُنظر إلى التراث كإمكان للانخراط في النقاشات الكونية الراهنة.

وهذا يحرر الفكر العربي-الإسلامي من موقع الدفاع أو التبعية، ويدفعه إلى موقع الشريك المساهم في صياغة قيم إنسانية مشتركة.

وأخيراً، يتميز هذا البراديغم بامتلاكه قوة اقتراحية، تتجاوز حدود النقد إلى مستوى البناء. فالمسألة ليست في إعادة قراءة التراث فحسب، بل في تفعيله ضمن مشروع حضاري يربط بين الهوية والحداثة، بين المحلي والكوني، وبين الماضي والمستقبل.

إن البراديغم الجديد لفهم التراث لا يُراد له أن يكون مشروعاً فردياً مغلقاً، بل أفقاً جماعياً يدعو الباحثين والمفكرين إلى التلاقي والتكامل.

ومن خلال هذا الأفق، يمكن أن يتحول التراث من مادة للانقسام إلى رافعة للتجديد الحضاري، ومن عبء ثقيل إلى مصدر إلهام وابتكار.