6 سبتمبر 2025 / 12:51

سؤال النهضة والآخر عند الجابري: قراءة راهنية ومعاصرة

بوشعيب شكير
تظل مسألة النهضة من أكثر الإشكاليات إلحاحًا في الفكر العربي الحديث والمعاصر، فهي تتقاطع مع قضايا الهوية، والتاريخ، والمعرفة، والسياسة، وتشكل محورًا للجدل الفكري حول أسباب التأخر العربي وفرص الانبعاث الثقافي والاجتماعي والسياسي.

وفي هذا السياق، قدم المفكر المغربي محمد عابد الجابري قراءة منهجية دقيقة للواقع العربي، ركزت على تشخيص مكامن الخلل، وفحص أثر التراث العربي على وعي المجتمعات، وتحليل العلاقة بين الذات والآخر في بناء مشروع النهضة.

ويظل فكر الجابري راهنًا حتى اليوم، لأنه يقدّم أدوات تحليلية صالحة لفهم تحديات العصر، ويجمع بين النقد الجذري للتراث من جهة، وفهم محددات الواقع العربي الراهن من جهة أخرى، دون الانزلاق إلى التطرف الفكري أو الغياب عن الخصوصية الثقافية.

أولًا: الوعي كشرط أساسي للنهضة

يرى الجابري أن النهضة الحقيقية تبدأ بالوعي النقدي، وليس بمجرد التغييرات الشكلية في التعليم أو الاقتصاد أو السياسة. فالوعي عنده يتجاوز المعرفة النظرية أو التقنية إلى إدراك شامل لطبيعة الواقع العربي، وللمحددات الفكرية والثقافية التي تحكم سلوك الفرد والمجتمع.

ويصف الجابري هذا الوعي بأنه أداة لتمييز ما هو أصيل من الموروث الثقافي وما هو دخيل، ولتحديد نقاط القوة والضعف في الفكر والممارسة.

فالوعي يشمل بعدًا معرفيًا ووجدانيًا؛ فالمجتمعات العربية لم تتوقف عند سؤال الهوية فحسب، بل واجهت السؤال عن مصيرها أمام تحديات العصر الحديث، وعن قدرتها على إنتاج شروط نهضتها الخاصة.

يتطلب ذلك إدراكًا دقيقًا للعوامل التاريخية التي أثرت في تشكل وعيها، وفهمًا نقديًا لما هو قائم، وتصورًا لما يمكن تغييره لتطوير المشروع الحضاري.

راهنية هذا البعد الوعي واضحة في الواقع المعاصر، حيث تواجه المجتمعات العربية صعوبات متعددة مثل البطالة، وضعف المؤسسات التعليمية، وتأثير العولمة على الهوية الثقافية.

وهنا يقدم فكر الجابري إطارًا تحليليًا يمكن من خلاله تشخيص أسباب التأخر، ووضع استراتيجيات معرفية قائمة على النقد والتحليل العلمي.

ثانيًا: الآخر وأفق الذات

الآخر يشكل عند الجابري معطى أساسيًا لفهم الذات، فهو ليس مجرد تهديد محتمل، بل فرصة لفهم حدود قدرات المجتمع وإمكاناته.

يميز الجابري بين تقليد الآخر الأعمى واستلهام التجارب العالمية بطريقة نقدية، وهو ما يسمح للمجتمعات العربية بتحقيق نهضة قائمة على أسس عقلانية دون الانصهار الكامل في الثقافة الغربية أو فقدان الهوية.

يدل مفهوم الآخر على أن الذات لا يمكن أن تعي نفسها بمعزل عن السياق العالمي، فهو أداة لفهم مكامن القوة والضعف، ولإعادة رسم الاستراتيجيات الحضارية.

وهذا البعد النقدي للآخر يجعل فكر الجابري راهنًا، خصوصًا في زمن العولمة والتحولات التقنية والاجتماعية السريعة، حيث يتطلب التقدم استيعاب الآخر وفهم تأثيراته مع الحفاظ على قدرة التفكير النقدي المستقل.

ثالثًا: التاريخ بين الانكسار والفرص

يرى الجابري أن التاريخ العربي ليس مجرد سجل أحداث، بل شبكة معقدة من العلاقات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي تحدد إمكانية التغيير.

ويركز على الانكسارات التاريخية التي أعاقت التطور، سواء بفعل الاستعمار أو الصراعات الداخلية أو الجمود الثقافي. إلا أن التاريخ وفق الجابري لا يمثل حكمًا نهائيًا، بل هو أداة لفهم الواقع وإنتاج استراتيجيات مستقبلية عقلانية.

من خلال تحليله للتاريخ، يشير الجابري إلى أن كل تجربة فاشلة تحمل درسًا يمكن أن يوجه الجيل الجديد نحو إعادة بناء مشروع النهضة على أسس عقلانية ونقدية.

وفي السياق المعاصر، يمكن الاستفادة من هذا التحليل في فهم أزمات المنطقة، من النزاعات السياسية إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وبناء حلول تستند إلى التجربة والمعرفة.

رابعًا: ثنائية العبد والسيد والتحرر المعرفي

أحد أهم المفاهيم التي استخدمها الجابري هو ثنائية العبد والسيد، والتي تعكس علاقات القوة والمعرفة في المجتمع العربي.

هذه الثنائية ليست مجرد مسألة سياسية، بل هي انعكاس للهيمنة الفكرية والثقافية التي تحد من قدرة الفرد على التفكير النقدي.

فالتحرر المعرفي يتمثل في تطوير أدوات النقد، وإعادة إنتاج مشروع الحضارة على أسس عقلانية، بعيدًا عن القيود الثقافية والسياسية التقليدية.

التحرر المعرفي يشمل إعادة النظر في العلاقة بين العقل والدين، وبين الموروث والتجديد، وبين الثقافة الشعبية والعلمية. فالنهضة الحقيقية، وفق الجابري، تعتمد على مشروع إعادة بناء العقل العربي، بما يمكّنه من تجاوز الانكسارات التاريخية والتبعية الفكرية.

وهذا المفهوم راهن بشكل خاص في سياق محاولات المجتمعات العربية تحديث التعليم، وتعزيز البحث العلمي، ورفع مستوى النقد الفكري الحر، لتمكين الشباب من المشاركة الفاعلة في صناعة المستقبل.

خامسًا: الثقافة الشعبية والعلمية في مشروع النهضة

يؤكد الجابري أن النهضة لا يمكن أن تكتمل دون الانتباه للثقافة الشعبية، التي تعكس جوهر المجتمع وتحدد قدرته على التغيير. فالثقافة الشعبية تحتوي على عناصر معرفية قابلة للتطوير والإبداع، بينما تمثل الثقافة العلمية الحديثة الوسيلة لتحقيق التقدم والابتكار.

نجاح المشروع النهضوي يتطلب دمج هذين البعدين: توظيف الثقافة الشعبية بطريقة نقدية، مع الاستفادة من المعرفة العلمية والتقنية، لإنتاج نموذج حضاري عربي قادر على مواجهة التحديات المعاصرة.

هذه الرؤية تظهر راهنية فكر الجابري اليوم، خصوصًا مع التحولات التكنولوجية والاجتماعية التي تواجه العالم العربي، حيث يصبح دمج المعرفة التقليدية والحديثة ضرورة للتنمية المستدامة.

سادسًا: مشروع النهضة كمسار معرفي وفكري

النهضة عند الجابري ليست مجرد تغيير سياسي أو اقتصادي، بل هي مسار معرفي وفكري طويل، يبدأ بتطوير الوعي الفردي والجماعي، ويمتد إلى إعادة بناء المؤسسات التعليمية والثقافية، وصولًا إلى تحقيق استقلال معرفي يمكن العرب من مواجهة تحديات العصر بشكل مبتكر.

يتطلب هذا المسار تجاوز الشعارات السطحية، والابتعاد عن التقليد الأعمى، والسعي إلى حلول عقلانية قائمة على تحليل الواقع وفهم الآخر، مع الحفاظ على خصوصية الهوية العربية.

وهكذا تصبح النهضة مشروعًا متعدد الأبعاد، يجمع بين العقل والوجدان، وبين الفرد والجماعة، وبين المعرفة والإبداع.

في هذا السياق، يقدم الجابري تصورًا عمليًا للنهضة يتمثل في تطوير أدوات تعليمية وبحثية قائمة على النقد والتحليل العلمي، تمكّن المجتمع العربي من التعامل مع العولمة، والتقنيات الحديثة، والتحديات الاقتصادية والسياسية، مع الحفاظ على ثقافته وهويته.

سابعًا: راهنية فكر الجابري وتحديات اليوم

تظهر راهنية فكر الجابري اليوم في العديد من القضايا المعاصرة. على سبيل المثال، في المجال السياسي، تقدم تحليلاته حول العلاقة بين السلطة والمجتمع أدوات لفهم الأزمات الراهنة التي تعاني منها بعض الدول العربية، مثل الانقسامات السياسية والفساد الإداري.

وفي المجال الثقافي، يساعد فكر الجابري على مواجهة تحديات العولمة التي تهدد الهوية العربية، من خلال إدماج النقد والمعرفة العلمية والتقنية في المشروع النهضوي.

كما أن فكره يوفر إطارًا للتعامل مع التغيرات الاجتماعية، مثل تطور الإعلام الرقمي وانتشار منصات التواصل الاجتماعي، التي أعادت تعريف العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين الذات والآخر.

وفي المجال الاقتصادي، تؤكد رؤية الجابري على ضرورة بناء مؤسسات تعليمية وبحثية قوية، قادرة على تطوير الموارد البشرية وتحويل المعرفة إلى إنتاج وابتكار، وهو ما يمثل شرطًا أساسيًا للنهضة المستدامة.

خاتمة

يمكن القول إن سؤال النهضة والآخر عند الجابري يمثل مشروعًا فلسفيًا متكاملًا لفهم الواقع العربي وإعادة صياغة المستقبل. فهو يربط بين تطوير الوعي والتحرر المعرفي، بين فهم الآخر وإعادة بناء الذات، وبين الثقافة الشعبية والعلمية.

النهضة، في هذا السياق، ليست هدفًا بعيد المنال، بل هي عملية مستمرة تتطلب نقد الذات، وتحليل الواقع، واستثمار المعرفة لإنتاج مشروع عربي عصري قائم على العقل والحرية والإبداع.

راهنية فكر الجابري اليوم تكمن في قدرته على تقديم أدوات عملية لفهم الواقع العربي، ومواجهة تحدياته الاقتصادية والسياسية والثقافية، بما يتيح للمجتمع العربي أن يتحرك من موقع المتلقي إلى موقع الفاعل، من الجمود إلى الإبداع، ومن التقليد إلى التجديد، مع الحفاظ على هويته وخصوصيته الثقافية.

وهكذا يصبح فكر الجابري مشروعًا حيًا، قادرًا على مواكبة التحولات الكبرى في القرن الحادي والعشرين، وتقديم رؤية واضحة لمسار النهضة العربية الممكن تحقيقه.