محمد خياري
في بيداء الأزمان وتحت سماء العصور، حيث الشمس تحكي للنجوم قصص التقاء الأرض بالسماء، يوشك الحجر الأسود أن يُروى لنا حكاية، ليست كأي حكاية، بل هي أنشودة عن حكمة رسول الرحمة، محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي بماتحلى به من عدل وصبر ووحدة، حمل شعلة الأنبياء، وجمع بذور القلوب المتنافرة في قبائل فاصلة، لينبت من صلابة القلوب جسرًا إلى وحدانية واحدة.
ذاك الحجر، الذي قدسته السماء، نزل من الجنة، يلمع بضياء السر الأزلي والهيبة الإلهية التي ترفرف حوله كأجنحة الملائكة، ليس مجرد صخر عادي، بل هو رمز لنقطة التقاء الإنسان بالألوهية، شاهداً على عهد السماء مع الأرض. حين تعثرت الأمم في غياهب النزاع، واحتدم الصراع بين قبائل قريش على شرف رفع ذلك الحجر، لم يكن هو عنوان الامتياز، بل هو اختبار للحكمة، مناطه ليس كبرياء الموقف، بل رجاحة العقل وقداسة الفعل.
وفي لحظة صفاء النفوس ونبل الروح، جاء محمد الكريم، ذلك الذي لم يرفع راية الغلبة، بل راية السلام والعدل، فقرر أن يحيك من القماش الأبيض سترًا للحجر، كل يد من قبيلة تمسك بطرفه، وكأنه يجمع بين النحل المتفرقة في خلية واحدة، ليحلق فوق كل صراعات الأرض، ويهبط بحكمة لا تُقاس على هامتها، فيتحدث عن الوحدة التي لا تهتز، والعدل الذي لا يصفو إلا بالإنصاف.
هكذا كان أسلوبه، أسلوب نورٍ وليْن، يضم الحقد ويرده إلى رحم التآخي، يحوّل العداوة إلى محبة، كأنما كان كل قبيلة قطعة من اللحن الواحد، والقصيدة التي تغنيها الدنيا بحكمة منبعثة من قلب النبي وآثار قدميه على الرمال.
بعد خمسة عشر قرنًا، حيث ارتقى الزمن وتأرجح بين الأمواج، وقف على عتبات التاريخ ملك يُدعى محمد السادس، أميناً على الإرث العتيق، متوشحاً بروح الحكمة النبوية التي جمعت الناس من أجل السلام والوحدة. لم يكن هو، كغيره، من أنصار السلطة التي تتغذى على الفرقة، بل استلهم من النبي المعلم أن بدايات الوحدة تبدأ من إدراك الشمول والرحمة، من حكمة تجريد النزاعات إلى فضاء واسع يتحرك فيه القلب متسعاً كشمس الصباح.
على أرض المغرب التي تربط بين قارات وجسور ثقافات، يصنع محمد السادس من كل تضاريس وطنه نشيداً يوحد الألوان واللغات والدماء، كأنه يوفي بالعهد المخبأ في قصة ذلك الحجر، يرسم خريطة الأمل في قلوب جماهير الأمة التي أنتجت التاريخ، ويبعث فيهم سلوان الوحدة والاشتراك في مصير واحد، يكون المغرب مركز حيوي يشد أوتار الأمة ويجمع شتاتها، لا بقبضة تصم الآذان، بل برقعة حكمة تحمل في طياتها دعوة ذ صادقة إلى الأخوة والرحمة.
وليس في ذلك فقط، بل تطور الأمر إلى أفق أوسع يتجاوز حدود الوطن، ليصل إلى أرجاء إفريقيا، حيث تتخلل أنفاس الصحراء وأمطار الغابات نداءات التآزر، وتتشابك الأيادي عبر صلوات ونداءات مجلجلة من أمل الموحدة. هناك، أسس جلالة الملك مؤسسة تحمل اسم العلماء الأفارقة، تلك النبضة التي تجمع بين العقل والروح، بين الفكر والذوق، لتخرج من سماء العلم نوراً يضيء طريق السلام الروحي والتعاون الحضاري، فتصبح القارة جسداً واحداً، والدم يتدفق في عروقها نبضاً من وحدة تستعيد عذريتها الأولى قبل الفُرقة والتباين.
في فضاءات روحية ، لن يكون هذا الأمر غريبًا على العالم، فالمنهج الذي يجمع فيه محمد السادس الأمة، يحمل نفس نفحات الروح التي ترفع الحجاب عن حقيقة الوجود، فلا فرق إلا في أسماء الحجب، ولكن الجوهر واحد، واحد كالنفس التي تغني في صمتها وترتوي من حب الإله، وهو ذلك المنهج الذي تماهى مع حكمة النبي محمد في وضع الحجر الأسود، ليس بوضع صخرة، بل بوضع دعوة لا تموت إلى الوحدة، إلى الانسجام، إلى السكون في حضن اللا متناهي.
إنها رحلة روحية أبدية مع الأرض والناس، مع الفكر والقلب، مع الحَكم والروح التي لا ترى الحكم إلا وسيلة لرحمة تغسل صدور المشتتين، وتجمع بين القلوب البعيدة، مثلما ترتبط نجوم السماء في النسق الواحد. هكذا يمضي محمد السادس، حيث يشق طريقه في ملكه ومستقره، كأنه يحيي تراتيل روحية تنسج عبرها حكاية العصر، حكاية الأمل الذي لا يذبل بحكمة وجمال، فيها يكمن سر النجاح، سر الوحدة، سر جمع الشتات.
وفي هذه الرؤية، يصبح الحجر الأسود ليس فقط قطعة من الجنة تدثرها قصص الأنبياء، بل رمزًا خالدًا لمنهج الحكم، منهجٌ يعتنقه الحاكم والعامل، يلم شتات القلوب المتفرقة ويصنع من اختلافها لحناً جميلاً يُردد في فضاء الأمة، في المغرب وإفريقيا والعالم الإسلامي، ويجعل من الحكم قصيدة إلهية تزينها زينة العدل والمحبّة.
فلننظر إلى حكمة النبي في رفع الحجر الأسود، ولنتأمل كيف أمكن للشك ودوامة النزاع أن تنطفئ بمسحة من الصفاء الروحي والعدل، هكذا يكون المنهج: لا عنف فيه، إلا رحمة، لا تفريق فيه إلا وحدة، لا تفرقة إلا اتفاق القلوب. وهذا هو السر المحمدي في السياسة، الحقيقة التي لا ينكرها الزمان ولا ينساها المكان.
فتتردّد الأصداء في قلب كل مارٍّ: “وحدة القلوب سر في جوهرها، لا يكبر إلا بالرحمة، ولا يسمو إلا بالعدل.” ومن هذا المنطلق، تتجسد رؤية محمد السادس الملك في حكمه ، في صوره أدب الحياة المترامي الأفق، الذي يقول للناس: كونوا كأسرة واحدة، وضموا أرواحكم كما ضم الثوب الحجر، وارفعوا راية العدل والمحبة، فإن في ذلك نجاة الأمم، وتطهير النفوس، ونشيد السلام الذي لا يحيد.
هكذا، يبقى الحجر الأسود حاضرًا في القلب، كما هو حاضر على الكعبة، شاهداً أن الحكمة هي أن تجمع القلوب لا أن تفرقها، أن تبني الجسور لا أن تحطمها، وأن تسير بالأمة نحو فجر موحد لا تنطفئ شمسه أبداً.
هذا هو البيان، وهذا هو السر، هذا هو المشهد الذي كتبته يد الحكمة النبوية، فقرأته العصور فتمثّلته القلوب، فوطّنته الأرض في سياحة محمد السادس على درب الجمع والسلام، ورسمت في وجهه شمس الأمل الزاهي، الذي لا تغرب في صحراء الأزمنة.
فليكن ذلك قصيدة نُرددها في الأفئدة، حكاية الحجر الأسود التي تلتقي فيها الروح مع حقيقة التاريخ، وحكمة الأنبياء مع رؤى الملوك، نور يغسل الأحقاد، ويشعّ على طريق وحدة الأرض والسماء، وتجمع الشتات، وولادة أمة واحدة، تسبيحها في مداميك الزمن لا تنقطع.