2 سبتمبر 2025 / 11:03

علم الكلام الأشعري في مواجهة الإلحاد المعاصر

بلال حسن التل. باحث أردني 

لماذا يقف علم الكلام الأشعريّ عاجزاً أمام الإلحاد، ولماذا تولّى السلفيّون تلك المهمّة؟

الإلحاد في أيّامنا مختلف عن الإلحاد الذي كان في نهاية القرن التاسع عشر، ويختلف الإلحاد الذي كان في القرن التّاسع عشر عن الإلحاد الذي انتشر في عصر التنوير في القرن الخامس عشر، وهذا الأخير يختلف عن الإلحاد الذي كان قد طغى على عقول المُفكّرين اليونانيّين قبل سقراط، وقبل أن يُقيم أرسطو الأدلّة العقلية على وجود الإله!

الإلحاد في زماننا إلحاد شعبوي، سهل الفهم، خال من تعقيدات الفلسفة والمنطق كحال إلحاد اليونان، وخال من مُصطلحات وثقافة ماركس الموسوعيّة! إلحاد ماركس إلحاد نخبويّ، وإلحاد التنويريين لا يفهمه غير قلّة من الناس المُثقفة ثقافة ممتازة، فمن هذا الذي يُمكنه فهم مُصطلحات كانط المُعقدة أو جدل ديفيد هيوم الفلسفي؟!

فهل نجعل خطاب ملاحدة عصر التنوير واليونان وماركس، مثل خطاب هيتشنز ودانييل دانييت ودوكنز المسرحي الاستعراضي الذي يُثير العاطفة أكثر ممّا يُثير الفكر والعقل والمنطق؟!

أمّا إلحاد القرن العشرين، فإنّ له ميّزة ليست لغيره من القرون، وهي ارتباط الإلحاد بالسياسة ارتباطا لا يمكن فكه، فإنّه كان شيوعيّاً، وكانت الدول تحارب الشيوعية والإلحاد معاً، باعتباره أبرز مظاهر الشيوعيّة، أمّا بعد انهيار الشيوعيّة، فقد غدا إلحاد اليوم خال من السياسة. ولا يُهدد الدول الغربيّة، فتجاهلته تماما.

هذا من حيث ارتباطه بالسياسة، أمّا من حيث عن أيّ شيء يبحث إلحاد اليوم؟  فإنّ الإلحاد في زماننا لا يبحث عن وجود الله أصلاً، على خلاف ما يحسبه المُتكلمون الإسلاميّون الأشعريّون! إنّه لا يبحث عن أدلّة وجود الله تعالى أصلاً، ولكنه يُعيد تقييم علاقة الألوهية بالبشر، هل هي علاقة مبنية على القيم الإنسانيّة والعقلانيّة؟  أم هي علاقة ذل وعبودية ومهانة واستبداد وطحن للإنسان ولفكره وطبيعته؟

كيف سيكون الإنسان حرّا مع سجوده لله، وتقيّيد أفعاله وتفكيره؟! إنّ إلحاد اليوم، يُعيد النّظر في قيميّة الصفات الإلهيّة. أكثر من إعادة قيميّة الصفات البشريّة. وعلى أيّ أساس يُعاد النّظر في تلك القيم الإلهيّة؟ يُعاد النُظر فيها وفق مبادئ الحرية الغربيّة ومواثيق حقوق الإنسان وهي فرنسيّة في أصلها!

المواثيق الأمريكيّة والبريطانيّة والفرنسيّة للحقوق، ودساتيرهم المتعاقبة، هي مُجرّد اقتباسات من (لوك، ومونتسكيو، وفيكتور هوغو، وجان جاك روسو).

هذه هي مصادر الدساتير الغربيّة بعد عصر التنوير، لا مصدر لهُم بعدها، فلأجل ذلك: يحاكمون صفات الإله على فلسفات أصحاب التنوير، وهم بالمناسبة ليسوا فلاسفة أصلاً، إنّك لن تجد اسما لهم في ديوان الفلاسفة، لكنّك ستجد أسماءهم في ديوان الأدباء. إنّهم أدباء تُثيرهم العاطفة لا فلاسفة يُثيرهم العقل والمنطق. فيأتي الأشعري الذي ما يزال يعيش في العصور الوسطى يرد على دوكنز وأمثاله من مشاهير الملاحدة، قائلاً:

إذا تساوت المُمكنات احتاجت لمرجّح، والمُمكنات مُتساوية لأنّها إن ترجّحت دون مُرجّح، لم تكن مُمكنة كما فرضنا في تعريف المُمكن، بل واجبة. وهذا خلف، إذن: ثبت أنّها تحتاج لمُرجح.

انزل إلى الناس وحدّثهم عن الإلحاد باللغة السهلة المفهومة المُعاصرة، كما هي عقول من يستهدفهم الملاحدة، حدّثهم ماذا يعني إلحاد كما يحدّثون الناس ماذا يعني أديان بلغة أدبيّة تثير العاطفة كما يفعلون؟

عرّف لهم الإلحاد: وأخبرهم أنّه أوسع من مُجرّد نفي وجود الإله. لا، بل نفي القيم والمبادئ! أخبرهم عن فظائع إلحاد لينين وستالين في ثقافة روسيا وأدبها وأخلاقها وقيمها، أخبرهم عن فظائع آرثر رامبو وماذا فعل بفرنسا وثقافتها وأدبها وأخلاقها، أخبرهم عن فظائع هنري ميللر وماذا فعل بثقافة أمريكا بسبب إلحاده. احفظ قصص الملاحدة الفظيعة وحدّث بها الناس، أخبرهم أنّ الله خير لأنّه خلق خيرا كثيرا، والشر ليس شرا أصيلا بل هو شر عارض لامتحان الناس، وأنّ هذا الشر الكثير من صنع أيدينا نحن.

ما زلت أدعو إخوتي الأشاعرة لتطوير لغتهم الفلسفيّة ليصل كلامهم إلى عامّة الناس بأسلوب سهل ومفهوم، دعوا عنكم اللغة الفلسفيّة الدقيقة، والقياسات المنطقية الصارمة وخاطبوا الناس بما يفهمون.

اكتبوا الروايات والقصص التي تبين الإلحاد وطرق البحث عن الله! اعقدوا ندوات ودروسا مرئية مباشرة ذات أسلوب ميسر للناس ودعوا عنكم أدلّة الإمكان والحدوث والعلة والمعلول وحدّثوهم عن العين وتقنياتها، والكلية ووظائفها، والأنزيمات وعجائبها، والخلية وتعقيداتها.

أخبروا الناس كيف تنتشر النظريات العلمية في المعاهد الأمريكية والغربية بأسلوب دكتاتوري مخيف وشنيع جدّاً. واجمعوا المادة العلميّة من مذكرات كبار الفيزيائيّين والبيولوجيّين الذين يثق الناس بهم، ولهم شهرة عالميّة. كتب داروين نفسه مليئة بذلك. حدّثوهم عن تاريخ العلوم الغربية وكيف جعلوها تجريبية لا ترى أبعد من الأرقام التي تسجّلها آلاتهم.

أخبروهم كيف جعلوا قواعد الفيزياء ومناهجها قواعد العلوم الإنسانيّة كلّها بأنواعها وأقسامها. وإنّك لن تجد فيزيائيّاً لا يتحدّث في الميتافيزيقا، وإنّ القوانين الخمسة الأساسيّة للفيزياء ليست تجريبيّة، بل قياسات استنتاجيّة عقليّة غير قابلة للرصد أصلاً. أخبروهم عن الأخطاء المنهجيّة المُخيفة والخطيرة في قيم الإلحاد وأبجدياته.

لمّا فهم سبينوزا لازم جعل الإنسان جزءا فيزيائيّاً من الكون، نفى مُباشرة الإرادة الإنسانيّة وجعلها مظهراً من مظاهر الخضوع للكون وقوانينه المادّية. ذلك لأنّه فيلسوف فاهم لما يخرج من فمه، لا كما نلقاه من الملاحدة الذين يحسبون الإلحاد لعبة وتجربة لا ضرر منها على مفهوم الإنسانيّة وقيمه الأخلاقيّة. واضربوا الأمثلة على هذا المعتقد من حروبهم وما أكثرها. فهل كان الشيوعيون والبلاشفة والنازية والفاشية غير ملاحدة؟! وما فعلته القوانين الغربيّة التي أنيط بها حياة البشر في الغرب بعيدا عن القيم المسيحيّة!

الملاحدة أنفسهم لا يعلمون أبعاد الإلحاد ولوازمه، فليس الإلحاد أن تنكر وجود الله ثمّ تنام قرير العين في سريرك. هناك لوازم فلسفيّة وأخلاقية ومعرفية وقانونية عليه الالتزام بها، ليس سهلا محو اسم الله من العقل والحياة كما يحسب الملاحدة! ومهما اختلفنا مع نيتشه، لكنّه أوّل فيلسوف قد فهم معنى الإلحاد وكتب في أبعاده ولوازمه وأخرجه من الفكر النظري إلى الأفراد والواقع الفعلي العملي. ومهما اختلفنا مع سبينوزا فهو أول من التزم بأبعاد وحدة الوجود التزاما تاما من غير كذب أو مواربة أو لف ودوران. وأعلن نفي الإله كلازم لوحدة الوجود. ونفى بنفي الإله الإرادة الإنسانيّة، ونفى بنفي الإرادة المسؤوليّة الأخلاقيّة.