إعداد: ياسين رضى، طالب باحث ومرشد متخصص في السياحة الدينية
هذا المقال في أصله رد على بعض التعاليق التي صادفتها حول مقال لرئيس المجلس العلمي المحلي لطنطان الأستاذ حسين عبد الخالق بعنوان: حينما قابلت شيخ الزاوية البودشيشية وهو منشور على جريدة الوطن أنفو بتاريخ: 14/08/2025 ، وقد كتبه بمناسبة وفاة مولانا الإمام المربي سيدي جمال الدين القادري البودشيشي رضي الله عنه، وعلى المستوى الشخصي فقد جمعني بالشيخ سيدي جمال رحمه الله لقاء تربوي في أركان الزاوية البودشيشية بمداغ سنة 2018م، حيث أبان رضي الله عنه عن نَفَسه العميق في التربية والتسليك حين قاوم كل أتعابه الصحية ووقف معنا وسار معنا مرشدا ومربيا بنصائحه وتوجيهاته ليختم الليلة معنا بحضوره الشخصي وإمامته للحضرة أو العمارة التي حاول فيها تجاوز مرضه وتعبه إلى قبيل الفجر، فانطلق فيها كأنه شاب عشريني فتي.
أما بخصوص بعض التعاليق التي كانت تطعن في الشيخ رحمه الله وفي الطرق الصوفية عموما، فقد وجب علينا بيان تهافت هذه التعاليق بقدر ما نستطيع بسطه في هذا المقال 1/2 على أمل أن نتوسع في الكلام لاحقا 2/2 بحول الله، وهذه التعاليق فيها من قلة أدب لا تخفى على أحد أي منهج ينتهج هذا الأسلوب الذي لا يراد منه سوى التنطع والخروج على جماعة المسلمين، فالرجل قد غادر دنيانا إلى رب رحيم هو أعلم بما قدم وأخر، والمنهج السليم عند أهل السنة والجماعة أن الرحمة وطلبها للميت هي المنهج السليم الموافق لكتاب الله وسنة رسوله وعمل الأخيار من أمته، وقد كانت التعاليق تحمل جهلا عظيما بحقيقة الطرق الصوفية وأدوارها، ورميها بدعوى موالاة الاستعمار والابتداع وغيرها.
وفي الرد عليها نقول:
أولا فأصالة التصوف في الاسلام نابعة من الحديث النبوي الشريف الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم :” الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” وكل سائر في هذا المقام يشترط فيه حسب صاحب أسرار الشريعة أن يكون اعتقاده موافقا للسنة، وعمله خاليا من البدعة، وقوله محفوظا من اللغو، ومما لا شك فيه أن القرون الأولى من الإسلام كانت على هذا المنهج الأخلاقي الزاهد في الدنيا، والذي سيأخذ فيما بعد مسمى التصوف.
وقد ذهب بعض المعلقين إلى تبني مغالطة “مناصرة الزوايا للاستعمار” فهذا الكلام يدخل في إطار ما يسمى الدعوى، وهي من قبيل الدعاوى التي أُلصقت بالتصوف خدمة لأجندة سياسية وفِكرانية لا تخفى على أحد، من بينها أن التصوف ناصر الإحتلال وأنه بوابة للتشيع وأنه يُسقط التكاليف…، فهذه الدعاوى لا تستقيم بحكم أن طرق الاستدلال عليها باطلة لجعلها التعميم منهجا لها، والتعميم كما هو معلوم مغالطة، ووجوه فسادها أن ساداتنا الصوفية ربطوا الرباطات والزوايا للدفاع عن الإسلام فالدين عندهم هو الأهم، وشواهد ذلك كثيرة، ففي الجهاد يكفيك ما فعله شيخنا الشيخ ماء العينين ( ت 1328هـ) وسلالته المباركة في الدفاع عن الوطن بدءا من معارك سواحل الداخلة إلى معركة سيدي بوعثمان بقيادة أحمد الهيبة( 1336 هـ) والذي مات حسب بعض الروايات مسموما على يد الفرنسيين، فرغم الهزيمة إلا أنهم جاهدوا دفاعا عن الوطن، أما السنوسيون في ليبيا فقد كانوا من حملة السيف في وجه الاستعمار وجهادهم وعلمهم لا يخفى على أحد، كما كان في المغرب الشيخ محمد بن عبد الكريم الخطابي( 1963م) أميرا في الجهاد والمقاومة وزاهدا بنَفَس صوفي لا يخفى على الدارسين ، كما لا ننسى بطولات الأمير عبد القادر الجزائري( 1300هـ) وتصوفه وزهده وجهاده سواء بالسيف أو القلم، فاتهامهم بالخذلان هو ضرب لعملهم هذا، وتزييف للواقع انطلاقا من ممارسات فردانية شائعة في كل المجالات.
ولتجاوز هذا الفهم العقيم لأدوار الزاوية والتصوف عموما، وجب التأكيد على أن الزوايا هي مؤسسات اجتماعية وروحية وجمالية، ومدارس في التربية والتسليك والجهاد والتعليم، فتاريخيا خرج من رحمها علماء أفذاذ كانوا لبنات في الفكر الإنساني، فالأفق الإنسي والكوني كان حاضرا في التربية الصوفية، وتفاعل الصوفي مع الكون والعالم بمخلوقاته خير دليل على ذلك، كما أنهم دعوا إلى التسامح ونبذ العنف ونبذ التفرقة حتى بين الطرق الصوفية نفسها، ولكم في مؤلف الشيخ ماء العينين “إني مخاو” خير مثال.
و من أفضال شيوخ التصوف على الإسلام نجد دفاعهم عن فريضة الحج وهو فعل أبي محمد صالح الماجري ( ت 1294 هـ)دفين آسفي رضي الله عنه، حيث سارع إلى تأمين طريق الحجاج بحماية رحلاتهم من اللصوص، والذّود عن الإسلام من فتاوى شاذة كانت تُسقط الحج عن أهل المغرب بذريعة أن الطريق غير آمنة.
واجتماعيا كانت مساهمة أبي العباس أحمد السبتي ( 601 هـ) رائد العمل الاحساني والتطوعي في سبيل الله شاهدة على عظمة الزاوية وأدوارها، والذي قال فيه ابن رشد “هذا الرجل مذهبه أن الوجود ينفعل بالجود”، فقد حبس العارف السبتي في زاويته الإطعام لذوي الاحتياجات الخاصة ممن فقدوا نعمة البصر ، وزاويته مشهورة إلى الآن بمراكش يرتادها كل محتاج لينال قوت يومه دون مقابل وهو ما يسمى عند المغاربة بالعباسية.
كما أن الزوايا كانت مدارس لحفظ القرآن وتدريس علومه المختلفة من رسم وتفسير وتجويد وتعقد فيها حلقات تحفيظ القرآن يوميا، وأما في جانب حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والدفاع عنها نجد مؤلف مولانا الشيخ محمد المعطى بن صالح الشرقي ( ت 1180هـ) خير مثال، حيث ألف كتابه العظيم القدر: “ذخيرة المحتاج في الصلاة على صاحب اللواء والتاج” يضم 60 جزءا، وفيه يقول صاحب فهرس الفهارس: “من أعظم الكتب التي فاق بها المغاربة غيرهم لأنها في نيف وسبعين مجلدا من القالب الكبير … ويفرغ السيرة النبوية في قالب صيغة صلاة، وكل مجلد أو أكثر من هذه المجلدات في موضوع من مواضيع السيرة، فله في المعراج سبع مجلدات، وفي الحج والزيارة وأماكنها مجلدات سبعة، وفي الشمائل النبوية سبعة أسفار أيضا…وهكذا”، وفي كلام العلامة الكتاني رحمه الله(ت 1962م) رد على قول القائل أن منهج التصوف لا يستقيم مع الكتاب والسنة وأنه لم يخدمهما، وفي الرد على هذا التهافت يكفي قول شيخ الطريقة وسيد الطائفة وإمامها، الإمام الجنيد ( ت 298 هـ) في بيان حقيقة منهج التصوف حيث يقول:” علمنا مضبوط بالكتاب والسنة، ومن لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به.”
وأخيرا فإن من يدعي أنه على منهج غير منهجهم ويستعمل التعميم كأداة للتنقيص أو الضرب في التصوف، وجب تنبيهه أن منهجه الذي يدعي الكمال لم تكن سيرته عطرة فالتاريخ مليء بمآسي وأحكام ألغت العقل وقيدت الفكر وأعدمت كل ذي بصيرة بحكم أن فعله مخالف للقرآن والسنة، مع العلم أنهم لو ذاقوا من تلك الحضرة لما قاموا من سكرهم، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء، وهؤلاء الذين تشربت من مشربهم حُرموا من لذة ذلك الفضل، فالتصوف هو شريعة وطريقة وحقيقة، ولا ينبغي أن ننتقص من هذا العلم أو نلمز أهله دون معرفة بحقيقة القوم وطريقهم حتى ننال المعارف والأسرار وشفاعة خير الأبرار.
والله تعالى أعلم.