26 أغسطس 2025 / 16:05

العلماء العرب المعاصرون واهتمامهم بالمستقبليات

سيّار الجميل

أوّلاً: ملاحظات على إعلان عربي

اثارني اعلان عربي لعقد مؤتمر يدور حول “فساد الأكاديمية” قام بالتوقيع عليه عدد من الأكاديميين العرب ومنهم من أعرفه شخصيا وأغلبهم من المغتربين، فباركت هذه الخطوة ولكن ما أثارني جملة ملاحظات عن مضمونه مع احترامي له واعتزازي بالقائمين عليه، اذ لم توضّح أهدافه ولا مجاله ومقاصده ولا إشكاليات الموضوع! هل يشمل العالم أم يعالج الحالة العربية؟ حتى عنوانه زادني قلقاً وتشويشاً. ثمّة ضبابية لم يوضحها الإعلان عنه بما فيها مضامينه. ومن حقّي أن أبدى ملاحظاتي التي أزعم أنها مهمّة خدمة للمؤتمر قبل انعقاده.

إن ما يثير حقاً، مضمون هذا الإعلان عن المؤتمر ساق لنا أسماء فلاسفة ومفكرين غربيين لا علاقة لهم بالموضوع أبداً، فقد أورد هذا الإعلان أسماء: هارولد لاسويل وميشال فوكو وباولو فريري وهانز يوناس وزيجمونت باومان وجورج أورويل وماكس فيبر وبيير بوردو وهانا أرندت وداني رودريك وأماتيا سن ومايكل هودج وهيلاري بولياز وروبرت كلارك. ولم يرد اسم عربي واحد وكأن هذه الأسماء خبيرة بفساد الاكاديمية ومنهم من مات قبل عشرات السنين! هذا مثال حي على الهوس العربي بأسماء الغربيين من دون معرفة تفاصيل ما كتب كل واحد من هؤلاء!

سوف أقتصر في هذا المقال على ذكر جهود بعض المفكرين العرب وقد شهد العالم العربي في العقود الأخيرة اهتمامًا متزايدًا بمجال “المستقبليات” أو دراسات المستقبل، وهو فرع من المعرفة يهدف إلى استشراف الاتجاهات المستقبلية وتحليل الاحتمالات المقبلة في مختلف الميادين، مثل الاقتصاد، والتعليم، والسياسة، والتكنولوجيا، والثقافة. وقد برز في هذا المجال عدد من العلماء والمفكرين والمؤرخين العرب الذين ساهموا في بناء رؤية مستقبلية واعية تحاول فهم الحاضر والتخطيط للمستقبل بعيدًا عن التنبؤ العشوائي أو التخمين غير العلمي.

أعود ثانية الى محاضرتي التي قدمتها مؤخرا في الولايات المتحدة:

ثانياً: مفهوم المستقبليات

تعتمد دراسات المستقبليات على مناهج علمية مثل تحليل الاتجاهات، والنمذجة، وبناء السيناريوهات، وتقييم البدائل، وهي تسعى إلى تقديم رؤى استراتيجية لصناع القرار. ويُنظر إلى هذا الحقل على أنه ضرورة في ظل التغيرات المتسارعة عالميًا، وخاصة في مجالات الذكاء الاصطناعي، التغير المناخي، التحولات الجيوسياسية، والاقتصاد المعرفي. وثورة المعلومات، والتحولات التاريخية، والمصير البشري، ومستقبل العالم من منظور علمي وفكري.

ثالثاً: المفكرون والمؤرخون العرب المعاصرون: الذكاء الاصطناعي وتحولات التاريخ والمصير البشري.

في ظل التسارع التكنولوجي العالمي وثورة المعلومات، برزت قضايا الذكاء الاصطناعي، والتحول الرقمي، وأثرهما العميق على مستقبل البشرية باعتبارها موضوعات مركزية لا يمكن تجاهلها في الفكر المعاصر. وعلى الرغم من أن هذا المجال قد يبدو حديثًا على الفكر العربي، إلا أن عددًا من المفكرين والعلماء والمؤرخين العرب المعاصرين تطرقوا للموضوع بعمق، ليس فقط من زاوية تقنية، بل من منظور حضاري، وفلسفي، وتاريخي، يستبطن أسئلة المصير البشري، والهوية، والوجود.

رابعاً: من الفكر إلى الاستشراف: تغير مركز الاهتمام

تقليديًا، ركز الفكر العربي على قضايا التراث، الدين، السياسة، والنهضة، ولكن منذ العقود الأخيرة، بدأ اهتمام جديد يظهر، يتمثل في استشراف المستقبل، ودراسة تأثير التحولات الرقمية والذكاء الاصطناعي على المجتمعات العربية، وعلى الحضارة الإنسانية عمومًا. هنا لم يكن الحديث مجرد إعجاب بالتقنيات الحديثة، بل تطور نحو تحليل عميق للتحولات التاريخية الكبرى التي يمر بها العالم، والبحث في مستقبل الإنسان، ومصير القيم، ومعنى الحياة في عصر الآلة.

خامساً: رواد عرب في الفكر المستقبلي والتحولات التكنولوجية

كان لعدد كبير من المفكرين العرب كتاباتهم وجهودهم من أجل المستقبل، وسأقف عند خمسة شخصيات عربية فقط اهتمت بعلوم المستقبل مع احترامي لجهود الآخرين. متمنياً ان يلتفت الاهتمام العربي بهؤلاء العلماء والمفكرين، وهم:

  1. المهدي المنجرة (المغرب) 1933- 2014

وصف علم المستقبل متعدد التخصصات، وطّور العديد من الأفكار عن المستقبليات وكنت التقي به مرارا عندما كنت أستاذا في المغرب وأدرك قيمته. وتوضح لديّ لاحقا أن هانتيغتون في صدام الحضارات كان قد نقل الفكرة من المهدي المنجرة من دون أن يذكر ذلك. وقد عالجت هذه المسألة في كتابي الجديد “على المشرحة ” الصادر قبل أيام. ذهبت الشهرة لهنتيغتون وبقي المنجرة وحيدا لم يذكره حتى أبناء أمته؟

  1. سهيل عنایت الله (باكستاني الأصل، لكنه واسع الانتشار عربيا ومستقبلي عالمي).

أحدث ضجة كبيرة في الوسط العلمي عبر تقديم منهجية “التحليل الطبقي السببي” (CLA)، إلى جانب مثلث المستقبل وطريقة التحول، وهي أدوات مفاهيمية تستخدم لفهم أعمق لمستقبل المجتمعات والتنمية. رغم أنه ليس عربيًا، إلا أن تأثيره وصل المجتمع الأكاديمي العربي والعالمي في حقل الدراسات المستقبلية.

  1. تحسين الشيخلي – (العراق / بريطانيا)

جمع بين الهندسة المعلوماتية والفكر الفلسفي. واهتم بالذكاء الاصطناعي، وتوسّع في أسئلته الوجودية، وكتابه: “كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل أسئلتنا الكبرى”، 2025: قراءة فلسفية معمّقة في آثار الذكاء الاصطناعي على مفاهيم الوعي، والهوية، والمعرفة. مع بحوثه في “الدماغ الرقمي، ودعوته لإعادة التفكير في دور المؤرخ في ظل الثورة الرقمية.

  1. نضال قسوم (الجزائر/الإمارات)

عالم فلك وناشط فكري، يُعنى بالقضايا العلمية والاجتماعية. رغم أن تركيزه الأساسي ليس على “المستقبليات” بمعناها التقني، إلا أن كتاباته وخطاباته حول مستقبل البحث العلمي والعلاقة بين الدين والعلم انتهجت نظرة مستقبلية نقدية وبناءة.

  1. سارة الأميري (الإمارات)

تُعد رائدة ضمن القلة التي جمعت بين رؤية المستقبل (ضفيرة المستقبل في الفضاء) والواقع العملي؛ فقد أشرفت على مهمة “مسبار الأمل” إلى المريخ، ما يعكس رؤية واضحة نحو المستقبل، ضمن استراتيجيات تنويع الاقتصاد وتنمية القدرات المعرفية الإماراتية.

سادساً: نحو فلسفة أخلاقية عربية للمستقبل

رغم أن معظم هؤلاء المفكرين لا يصنفون أنفسهم مؤرخين تقليديين، إلا أن أعمالهم تنطلق من فهم عميق للسيرورات التاريخية، وهم يطرحون الذكاء الاصطناعي كثورة لا تقل أهمية عن اختراع الكتابة أو الطباعة، بل قد تكون لحظة مفصلية في تاريخ البشرية. هؤلاء المفكرون لا يكتفون بتحليل التكنولوجيا، بل يسألون: ما معنى أن يكون الإنسان في عصر الخوارزميات؟ وهل تتفوق الآلة على العقل البشري؟ ماذا عن الأخلاق، والوعي، والهوية؟ وكيف يمكن للعرب أن يساهموا في صياغة المستقبل بدل أن يكونوا مجرد مستهلكين له؟

سابعاً: التحديات أمام الفكر العربي في عصر الذكاء الاصطناعي

رغم هذه المحاولات الفردية الجادة، ما يزال الفكر العربي يواجه تحديات كبيرة:

1/ قلة المراكز البحثية التي تدمج بين الفلسفة والتكنولوجيا.2/ ضعف التمويل للأبحاث المستقبلية المتعددة التخصصات. 3/ غياب سياسات تعليمية تُشجع على التفكير النقدي والتقني معًا. 4/ هيمنة الخطاب السياسي أو الديني على حساب أسئلة المصير البشري العلمي.

ثامناً: نحو رؤية عربية إنسانية لمستقبل العالم

إن ما يدعو إليه هؤلاء المفكرون ليس فقط مواكبة العصر، بل المشاركة في صياغة مستقبل العالم. يدركون أن الذكاء الاصطناعي قد يعيد تشكيل الحضارة برمتها، ولهذا يحذرون من فقدان الإنسان لذاته إذا غاب الضابط القيمي والتاريخي في توجيه التكنولوجيا. إنهم يقترحون رؤى عربية لا تنفصل عن الخصوصية الثقافية، ولكنها في نفس الوقت لا تنغلق على الذات، بل تنفتح على العالم، بروح نقدية، ومساهمة علمية، وإنسانية شاملة.

تاسعاً: خاتمة

إن مساهمات العلماء والمفكرين العرب المعاصرين في قضايا الذكاء الاصطناعي وثورة المعلومات وعلوم الفضاء تمثل خطوة أولى نحو تأسيس فلسفة عربية للمستقبل. فلسفة تستند إلى التاريخ، ولكنها تتطلع إلى الأمام، نحو عالم لا يُدار فقط بالخوارزميات، بل بالوعي، والمسؤولية، والأخلاقيات العالية والإنسانية. انني اهيب بمجتمعاتنا العربية التخّلي عن عقدة الخواجة ومنح العلماء وكل رجالات الفكر المبدعين مكانتهم والاهتمام بهم في زمن تتحكم فيه الخوارزميات بقراراتنا، والبيانات وبعقولنا، ينهض صوت عربي يسأل: أي إنسان نريد أن نكون؟ وأي عالم نريد أن نصنع؟