محمد خياري
قلنا في مقال سابق إن طقوس إمارة المؤمنين في المغرب ليست مجرد مظاهر شكلية، بل هي تجليات لسرّ روحي عميق يعيد إنتاج العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويربطهما بنور الله الذي لا ينطفئ؛ سر الخلق وغاية الوجود.
إنه السر المحمدي، نور أزلي يتجاوز حدود الزمان والمكان، لا يُقاس بمآثر الأيام ولا يُقيد بأطر التاريخ المادي. إنه حقيقة باقية تتعدى شخص النبي الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم-، لتصبح هالة وضاءة تضيء السرائر، وتهدي السالكين إلى معرفة الحق -سبحانه وتعالى-. هذا النور الذي تتجمع فيه المقامات الروحية، كما تُنسج خيوط الفجر الشرقي بأنامل النبوة في حضرة العبادة الخالصة، هو سر يفوق الإدراك العقلي، يُذاق بحلاوة الوجد القلبي وطيب الذوق الروحي.
لكن السر المحمدي لا ينمو في فضاء غير متجذر في النفس، ولا يتحقق إلا في قلب من صارع ذاته وتردد في ليل الشك والوحشة، حيث تتشابك أنين النفس مع ضياء الرحمة. هو ذاك الجسر المقدس الذي يصل بين نور الفطرة الأولى ونور الوحي المطلق، يجلي الإيمان صفاءً، ويرقي القلب تزكيةً ونقاءً، فلا يبقى فيه ما يعكر صفو السير إلى الله. رحلة النور هذه تتداخل فيها لحظات الاضمحلال والفتور، كمد وجزر، لأن القلب في تحول دائم بين الضياء وظلال التيه.
كاللؤلؤة التي تخترق صخور الليل، يُصلح هذا السر النفوس ويُنضج الأرواح، يربط صلة القلب بروح الجمال الأعلى، فتغدو الحياة زكاة مستمرة وعملًا مطهرًا، وارتقاءً لا ينقطع نحو السمو والرفعة. تحقيق هذا السر يشبه الإبحار في أعماق الذات حيث يجتمع خوف العبد ورجاؤه، وحين يذوب في محبة لا تذبل ولا تزول، حتى تزهر روحه في بستان العبودية الخالصة.
في المغرب، تترسخ هذه الروح المحمدية في عمق الهوية الثقافية والروحية، وتنبثق في ملامح الفنون الروحية، واللاهوت، والأدب. فهناك، يستمد الأولياء قوتهم من الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، الذي يُعتبر جوهر تربيتهم الروحية، وتركيزهم على تزكية النفس وتنقيتها، وإطفاء مشاعر الغرور والرياء. هذه العبادة الصادقة تعكس السر المحمدي في أسمى صوره، بعيدًا عن تصنع المظاهر أو الخديعة، وقريبًا من الحياة الطيبة التي وعد بها الله المخلصين.
هذا السر يتردد بقوة في شعر المديح النبوي المغربي، حيث تمتلئ الألفاظ بالحب الصادق، وتتشابك أبيات التمجيد والسجع بإدراك عميق للمقام الإلهي، فتذوب النفوس في تأمل أصداء نور محمدي لا ينطفئ، وتتجلى الأجواء الروحية بأصداف الكلمات وبهاء البحور.
أما الحكايات والكرامات التي تتناقلها الأجيال عن أولياء الله في المغرب، فهي تجليات حية للسر المحمدي؛ نور يرن في أعمالهم وسلوكهم، كأنها مشاعل لا تنطفئ، تدل على كيف أشرقت مواهب النبوة بين التربة المغربية، وكيف خطت مسارات الروح الضوء في ممرات التاريخ.
في الزوايا والمساجد المغربية، تتجسد التربية القرآنية والروحية على فهم باطن السر المحمدي، وتُعلّم السالكين عمق التواصل مع النبي الكريم، فالصلاة والذكر ليستا مجرد أفعال ظاهرية، بل مدخل إلى تنقية القلب، وحوار مستمر مع سر الرحمة الإلهية، الذي يجمع بين صدى الكلمات وتدفق النور في الأنفس.
تتجلى هذه الروح المحمدية أيضًا في الاحتفالات الكبرى مثل المولد النبوي الشريف، حين تلتقي القلوب في ذكر واحد، تستشعر فيه النفوس هبة الحب وخفق الشوق، فتتحول الطقوس إلى مرآة نورانية تنثر البهجة والطمأنينة عبر الأجيال، مراعية توازنًا بين الفرح والوقار، وبين النشوة الروحية والتواضع الإيماني.
ويحكي المعمار والزخرفة المغربية أيضًا عن إحساس نبوي، حيث تتعانق الأنماط الهندسية في انسجام بصري وروحي نابع من نورانية السر المحمدي، مبرهنة على التفاعل بين الباطن والظاهر، وبين الشكل والمعنى، وكأن كل خط وكل لون يرسم قصة توحيد تجمع بين ذكر الله وجمال الخلق.
لكنه سر لا يقتصر على فرح مستمر أو نور لا يعكر صفوه، بل هو رحلة النفس بين ظلال الشك، وأوقات الافتقاد، وما بين تأن ووجد صامت، ولحظات ترقب وانحناء أمام الحقيقة. ففي هذه اللحظات نفسها، يزداد نور السر بهاءً، وتُسطر أنفاس العبد قصيدة خلود تأخذ بيد السالك من الظلام إلى النور، ومن التساؤل إلى اليقين.
هكذا يصبح السر المحمدي لإمارة المؤمنين قوة روحية نابضة بالحياة تجمع بين العقل والقلب، بين العمق والظاهر، ينسج معاني الولاء، ويؤصل حبال الانتماء، ويهدي نحو عمل صالح وزكاة روحية لا تنقطع، كأنها أنفاس إيمان حقيقي تنقش أبهى لوحات الذكر والعبودية.
إنه لؤلؤة الحكمة بين درر العرفان، نبض نبوة خالد متوهج بأنوار العبودية الصالحة، يربط القلوب حول محبة النبي وآله وصحبه، طريق تتوشح بالسماوات وتحتضن الأرض. يستقي منه من ذاق سنن الله واحتسى كأس العرفان، ليعيش تجليًا حيًا لهذا السر الذي تنطق به الأرواح، وتنير به العوالم، فيسود السكينة والطمأنينة، وتجري أنوار البركة على كل لسان، لتقود النفوس نحو القبول الكامل عند لقاء الخالق بأسمى صفاته.
هذا السر المحمدي ليس فقط سر عبودية فردية، بل هو نبض جماعي يشكل هوية متماسكة تجمع بين المقدس والمجتمع، ويشكل وعيًا ثقافيًا وروحيًا عميقًا، يتغلغل في شعائر الناس وأدبهم وفنونهم ومسالكهم الروحية، فتصبح هذه الحكاية النورانية إيقاعًا خفيًا يحرك مشاعر الانتماء، ويغذي قيم المحبة والتسامح والرحمة، ويبني روابط التماسك الاجتماعي حول مشترك مقدس.
السر المحمدي لإمارة المؤمنين هو أصل كل بركة وخير في المغرب، فبه تتبارك الحياة بهبوط سماوي ينير دروب البشر، حيث تنشد المخلوقات معًا نور الله الذي لا ينطفئ، سر الخلق وغاية الوجود.