عبد الرحمن مزيان
عرفت الزوايا في المغرب لحظات مشرقة في تاريخها، حيث جمعت بين التربية الروحية وخدمة المجتمع، وأسهمت في نشر العلم، وتحصين الهوية الدينية، وبناء جسور التضامن. لكنها اليوم تقف على مفترق طرق: بين أن تستعيد دورها التربوي الأصيل، أو أن تتحول إلى مجرد رموز فولكلورية بلا حياة.
من التربية الروحية إلى صنمية الأشخاص
ما أشار إليه المفكر عبد الجبار الرفاعي بعمق شديد، يعكس أزمة واقعية: كثير من الزوايا انزلقت من فضاء يحرر الإنسان إلى مجال يُكرّس صنمية المشايخ. أصبح المريد يذوب في شخصية الشيخ بدل أن يتحرر بروحه ووعيه. هذه العلاقة غير السوية أنتجت أتباعًا بلا شخصية، وكرّست خضوعًا أعمى لا يمتّ بصلة إلى جوهر التصوف، الذي هو في أصله حرية وكرامة ووصال بالله وحده.
صراع الشرعيات وتكرار أخطاء الماضي
ما نشهده اليوم من ثنائية قيادية داخل بعض الزوايا، كما هو الحال في التجربة القادرية البودشيشية، يطرح سؤالاً مقلقًا: هل نحن بصدد تكرار أخطاء الماضي؟
لقد علّمنا التاريخ، من تجربة التيجانية بين فاس وتمبكتو، أو الشاذلية حين انقسمت إلى طرق متعددة، أن تعدد المراكز القيادية في التصوف ينتهي دائمًا إلى تشظي الطرق وتيه المريدين. فالروح السالك يحتاج إلى قبلة واحدة، والقلوب لا تحتمل ازدواج المرجعيات. حين تتوزع الشرعية بين الروحي والتنظيمي، ينشأ تضارب يهدد وحدة المريدين ويزرع بذور الفرقة.
الحاجة إلى مراجعة جذرية
الزوايا اليوم لن تستعيد رسالتها إلا إذا امتلكت شجاعة المراجعة الفكرية والذاتية. ويعني ذلك:
– تفكيك صنمية الأشخاص، وإعادة الاعتبار للمناهج التربوية لا للأسماء.
– تحرير التربية الروحية من الطقوس الجوفاء التي لم تعد تخاطب إنسان اليوم.
– إعادة وصل التصوف بالمجتمع والتنمية: في التعليم، في محاربة الأمية، في بثّ السلم الروحي، وفي المشاريع الاجتماعية التي ترفع من شأن الإنسان.
نحو نموذج جديد: تكامل لا صراع
مع ذلك، يمكن النظر إلى بعض التجارب كفرصة لإطلاق نموذج جديد. تقسيم الأدوار بين الروحي والإداري ممكن ونافع، إذا ظل قائماً على التكامل لا على التنافس. فحين يكون التدبير المادي خادمًا للتربية الروحية، وحين يكون الانفتاح المؤسسي وسيلة لدعم الرسالة التربوية، يمكن للزوايا أن تتحول إلى مؤسسات روحية وتنموية معًا.
إما تجديد.. أو اندثار
اليوم تقف الزوايا أمام خيار حاسم:
إما أن تتجدد، فتستعيد رسالتها كمدارس للتربية الروحية على نهج الجنيد وأبي مدين وابن عربي، مدارس تعيد وصل الإنسان بذاته وقيم الحرية والكرامة.
أو أن تبقى سجينة تنافسات عائلية وصراعات وراثية، فيذبل أثرها وتتحول إلى مراكز فولكلورية بلا روح.
إن التصوف الأصيل ليس حكاية وراثة، بل رسالة حياة. والزوايا لن يكتب لها البقاء إلا إذا تجرأت على نقد ذاتها، وفتحت أبوابها لتكون من جديد: بيوتًا للإنسان والحرية.