18 أغسطس 2025 / 11:05

رأي: هل أصبحت سردية حقوق الإنسان عبثاً؟

عز العرب لحكيم بناني 
يبدو لي أحيانًا أنَّ أغلب ما كتبته أو كنت أعتقده بخصوص حقوق الإنسان مجرّد هراء ! عندما نُخضِعُ ما نقوله لمعيار التّكذيب والتّأييد لا شيء سيبقى صامدًا بعد إبادة شعب بكامله. قد يكون السَّببُ هو أنّنا كنّا نحملُ أحلامًا ورديّةً تعزَّزت أكثر بالسلطة الوهميّة التي كان يتمتّع بها ميثاق الأمم المتّحدة ومجلس حقوق الإنسان والصكوك الدّوليّة في مجال الدّفاع عن السلم الدّولي.
لا أدري هل انهارت الأحلام الورديّة نتيجة السّذاجة الفكريّة أو تغيُّر العالم من حولنا. لا أظنُّ بأنَّ تغيُّر العالم يكفي لفهم هذه السذاجة. عرف العالم حروبًا مدمّرةً كثيرة، مثل إلقاء القنابل النووية على ناكازاكي وهيروشيما وحرب الفيتنام وجرائم التطهير العرقي عبر العالم. وظلَّ صوت الفلاسفة حاضرًا على الدّوام للتَّنديد بهذه الجرائم.
بعدما حصل هاري ترومان على الدّكتوراه الفخريّة من جامعة أكسفورد احتجّت الفيلسوفة الإنجليزيّة المرموقة الآنسة أنسكومب Anscombe على تكريم من تسبَّبَ في أكبر الجرائم الوحشيّة ضدَّ المدنيّين. كما كانت القوّات الأمريكيّة قد هاجمت المدنيّين بشكل متعمَّدٍ في حرب الفيتنام، مما دفع الفلاسفة والمثقفين إلى رد فعل قوب، وهو ما تأكَّدَ بصورة واضحةٍ في تقارير صحفيّة ودراسات كثيرةٍ.

هذا هو السّبب الذي دفع الفيلسوف الأمريكي توماس ناجيل Thomas Nagel في مقالته عن الحرب والمجازر، إلى الدّعوة إلى حماية المدنيّين. يجب وضع قيود معيارية على ما يمكن للجيش أن يفعله. يجب حماية المدنيّين حتى ولو كانت مهاجمتهم تقدّم خدمة ذات أهمّية بالغة وحتّى ولو كان الاعتداء على السكان وإبادتهم يُزيل جذور المشكل. مع ذلك، يظلُّ المعيار الأساس الذي يحتكم القانون الدَّولي إليه هو تمييز المدنيّين عن المقاتلين وضمان شروط حياة دنيا، حتّى ولو كان تبنّي مثل هذه القيود يطيل أمد الحرب ولا يحقّق الانتصار في وقت قياسي.” لا يجوز الانتصار في الحرب بأيِّ ثمن، بما أنّه توجد قيود مطلقة لا يجوز تجاوزها باسم المصلحة الآنية.
لا يجوز مهاجمة الأبرياء بدل مهاجمة الجنود، حتّى ولو كان الأبرياء مدنيّين يسهرون على خدمة العدوّ. صحيح أنّه توجد منطقة رماديّة لا تميّز بوضوح بين الجنود في ساحة المعركة وبين مهندسي الصواريخ والمسيّرات الذي يُعتبرون مدنيّين. لكنَّ استثناء المدنيّين والنساء والأطفال من القتل من القتل والتجويع والتهجير استثناءٌ مطلقٌ لا يجوز تجاوزه.
كان الضَّمير العالمي لا يزال حيًّا خلال حرب الفيتنام وبعدها. ولكنَّ صوت هذا الضّمير خفت أو اختفى لدى الفلاسفة الذين كنّا نتوقّع منهم أن يتّخذوا موقفًا واضحًا، وهم الفلاسفة الذي احتلوا موقع الصدارة في فلسفة التواصل والسلم والحوار وحقوق الإنسان.
أعود من جديد إلى ناجيل لأقول إن كلامه ظلَّ صيحةً في واد. يمكننا أن نحسَّ بكارثة المدنيّين إذا ما قمنا بمقارنة بين الضحايا الفيتناميين المدنيّين من 1961 و1973 والضحايا الفلسطينيين المدنيّين ليس فقط خلال هذه الحرب، بل تاريخ الصراع الطويل من أجل انتزاع الشرعية الدّولية، من 1948 إلى اليوم.
ومع ذلك، خفت صوت الفلاسفة، ربَّما لأنَّ الالتزام بالشرعيّة الدّوليّة والأسس الفلسفية لم يكن هراءً، بل لأنَّ السرديّة تغيرت. بعدما كان التّأسيس الفلسفي بنايةً ضخمةً، تبيّنَ أنّها عملاق قام على قدمين من تراب. ظهرت سردية جديدةٌ، وهي الحقُّ في الدّفاع عن النّفس legitime defense. ونحن نعلم من هذه السرديّة أنّه يجوز لي دفع شخصٍ بريءٍ إلى الموت حتّى أحمي نفسي من الموت. تمَّ تعميمُ هذه السَّرديّة بشكل سافر للدفاع عن حقِّ الوجود ضدَّ المدنيّين العُزَّل، ولو أدّى بهم الأمرُ إلى المجاعة والموت والتهجير القسري.
سقط العملاق لأنَّ قدميه من تراب، بعد سقوط السرديّات الكبرى، وظهرت سرديّةٌ بدأت تطرح أسئلة ماكرة: لماذا نُدافع عن المدنيّين؟ ألا يجب عليهم أن يتحمّلوا عواقب مساندة الحكام الذين أوصلوهم إلى السلطة ؟ لماذا يجب أن نخرج السكان من المجاعة، بينما يجب أن يتمردوا على السلطة التي أوقعتهم في هذا الوضع؟ لماذا نساعد الدول الفقيرة عبر العالم، بينما فقراء تلك الدول مسؤولون عن فقرهم، لأنّهم لم يعترضوا على الفساد والرشوة وهي سبب فقرهم ولم يتمردوا على الأنظمة الفاسدة التي أدّت إلى فقرهم. لماذا نُحسن إليهم بينما لم يُحسنوا إلى أنفسهم ؟ ولماذا ندافع عنهم بالوكالة بينما يستطيعون الدفاع عن أنفسهم؟ كلُّ هذا من أجل خلق عقدة الذنب في ضمائر من يبحثون عن العيش الكريم والتملص من واجب التضامن الدولي. هذا هو الصنف الجديد من الفلاسفة الذين تخلوا عن كانط وهوسرل وراولز وناجيل وانطلقوا من مبدأ الدفاع الشرعي عن النفس، وفق منظور يجهل أيَّ شيء عن التاريخ والجغرافيا، ولا يقبل إلا بحسابات ضيّقة حول الربح والخسارة.