محمد الزهراوي، أستاذ العلوم السياسية
يصعب عمليا مقاربة العلاقات بين الدول وفق “براديغم” محدد، إذ تبدو الصورة نمطية في بعض الأحيان، تارة محكومة بثنائية التقارب/التباعد، وتارة أخرى خاضعة لمنطق الالتباس وعدم الثبات، حيث يمضي الزمن على إيقاع التحولات الطارئة وغير المتوقعة. تغيرات متسارعة ولا متناهية على صعيد العلاقات الدولية، تصعب التكهن بالنتائج ومصائر الشعوب والدول. دينامية الأحداث صارت منفلتة، تقلبات وتحولات دراماتيكية غدت عنوانا صغيرا يعكس عالم اللايقين الذي دخلته البشرية مع انتشار جائحة كوفيد 19. وعلى الأرجح لا ولن ينتهي “عصر اللايقين” بحسب المؤشرات الراهنة.
واللافت أن المملكة المغربية كسائر دول العالم تحاول أن تتموقع بشكل جيد ضمن دائرة النفوذ وخريطة التحالفات التي تتشكل منذ زمن غير بعيد، وذلك من خلال بلورة سياسة خارجية وعقيدة دبلوماسية ترتكز بالأساس على البرغماتية والواقعية للدفاع عن المصالح العليا وحماية الوحدة الترابية، وبالأخص قضية الصحراء التي تأتي على قائمة الأولويات.
وكنتيجة لذلك انخرطت مجموعة من الدول الغربية المؤثرة في دينامية الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه، بل باتت هذه المتغيرات تنذر بقرب طي هذا النزاع الذي امتد لنصف قرن.
وبالنظر إلى الدعم الغربي تتناسل بعض الأسئلة والتساؤلات حول الدعم العربي للمغرب في هذا النزاع، خاصة الدول المحورية والمؤثرة، إذ يسجل انخراط دول مجلس التعاون الخليجي بشكل غير مسبوق في دعم المملكة المغربية عمليا وعلنيا رغم تباين المواقف السياسية لدول المجلس إزاء ملفات وقضايا داخلية واقليمية أخرى؛ فقد صارت بيانات المجلس منذ القمة الخليجية المغربية الأولى في أبريل سنة 2016 تعبر بشكل واضح عن دعم سيادة المغرب على الصحراء.
وارتباطا بجغرافية الدعم العربي مازالت جمهورية مصر وفية لمواقفها السابقة الغامضة وإن كانت تكتسي طابع الحياد تارة، والصمت تارة أخرى، إذ تحاول على الأرجح النأي بنفسها عن الصراع المغربي الجزائري، وأخذ “مسافة الأمان” للحفاظ على مصالحها مع الطرفين عبر نهج أسلوب بارد وجاف سياسيا في التعاطي مع النزاع، دون القفز بطبيعة الحال على مواقفها الأكثر ميولا خلال سبعينيات القرن الماضي للنظام الجزائري من منطق الخلفية العسكرية التي كانت تشكل قطب الرحى بالنسبة للنظامين آنذاك. هذا حال التاريخ، لكنه لم يعد محددا اليوم على الأقل بالنظر إلى مؤشرات التباعد بين النظامين المصري والجزائري إزاء مجموعة من القضايا الإقليمية.
لذلك يبدو أن مصر تفضل “منطقة الراحة”، وهي “المنطقة الرمادية” بلغة الدبلوماسية ومحاذير السياسة والاقتصاد، إذ مازالت تنتهج السياسات والتوجهات نفسها، وهي سياسات كادت أن تعصف بالعلاقة بين الطرفين في مناسبيتين في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي؛ الأولى عام 2016، عندما استقبلت مصر وفدًا من البوليساريو للمشاركة في مؤتمر برلماني عربي إفريقي في شرم الشيخ. وقد أجرى الوفد لقاءات مع مسؤولين مصريين وشخصيات برلمانية عربية وإفريقية. والمناسبة الثانية عندما رفضت مصر توقيع ملتمس طرد البوليساريو من منظمة الاتحاد الإفريقي سنة 2017، بالإضافة إلى موقفها المتذبذب والملتبس عند مباشرة إجراءات عودة المملكة إلى الاتحاد الإفريقي في السنة نفسها.
ومن منطلق التحقيب الزمني للعلاقة بين البلدين بمدها وجزرها خلال العشرية الأخيرة فخلال السنوات التي تلت تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي السلطة في مصر شهدت اللجنة العليا المشتركة نوعًا من التعثر والجمود، بل بات انعقادها في حكم المؤجل إلى أجل غير مسمى. لكن المفارقة الصارخة هي أن الجمود كان على مستوى دبلوماسية القمة، والمقصود بها لقاء زعماء البلدين، فيما لم يؤثر على العلاقة بين الطرفين، إذ يبدو أن لغة الصمت تعبر بعكس المتوقع والتكهنات عن وجود إرادة سياسية لتعزيز العلاقات بين البلدين؛ هي لغة صامتة يتحدث بها الطرفين، لغة المصالح والأولويات. فرغم أن الظروف السياسية والإقليمية أدت إلى تأجيل أو تعطيل بعض الاجتماعات من المؤكد أن الرباط صارت على ما يبدو غير متحمسة للقاءات واستقبالات رسمية لأطراف غير واضحة في مواقفها تجاه قضية الصحراء، وهو نهج عبر عنه الملك محمد السادس في أحد الخطابات عندما أشار إلى أن الصحراء هي النظارة التي يختبر بها المغرب صدق الصداقات.
غير أن العقل الإستراتيجي لبلاد الكنانة وهو ينتهج هذه السياسة، وإن كانت محكومة بقراءة كلاسيكية متجاوزة للنزاع، فإن توجهه غير تابث وغير دقيق، وعلى ما يبدو غير محسوم بلغة الواقع؛ كما لو أن هذا الملف غير ذي أهمية ولا يحتاج إلى موقف صريح وواضح في غياب أي ضغط، ولاسيما أن المغرب والجزائر يتعاملان مع مصر بشكل يعطي الانطباع للمتتبع بالرضا أو يؤشر على ارتياح وقبول الطرفين الموقف المصري الباهت، خاصة تجاه المغرب. إلا أن دائرة السلطة في مصر أهملت بعض الحقائق والمعطيات التي تجعل من خروج البلاد من المنطقة الرمادية ودعم سيادة المغرب خيارا إستراتيجيا لا محيد عنه بالنسبة للطرفين.
ويمكن الإشارة إلى بعض هذه المعطيات من خلال ثلاثة مستويات:
أولا، جيوسياسي، وذلك بالنظر إلى التفاعلات الإقليمية، سواء على الساحة الإفريقية أو على مستوى منطقة الشرق الأوسط، فكلا الدولتين لهما تأثير ومساحة نفوذ مهمة؛ فمثلا النفوذ المتزايد للمملكة المغربية على الرقعة الإفريقية تعزز بشكل أقوى خلال العشرية الأخيرة، خاصة على مستوى شرق وغرب ووسط إفريقيا، حيث أخذ أشكالا متعددة عبر الشراكات الاقتصادية والتجارية؛ بل تمكن المغرب من نسج علاقات قوية مع دول لها وزنها وثقلها على الساحة الإفريقية، مثل إثيوبيا ونيجيريا. هذا بالإضافة إلى المكانة والدور المحور الذي ما فتئ يقوم به المغرب في منطقة الشرق الأوسط، وتعزيز العمل العربي المشترك رغم الصعوبات التي تعتري الجسم العربي بسبب عوامل كثيرة متداخلة من الناحية السياسية والاقتصادية والدولية. مصر كذلك لها وزنها ومكانتها، ودورها في بناء نظامي إقليمي عربي، وإن كان ذلك اليوم بمثابة حلم جميل يراود الطوباويين. وبدون تحفظ أو شوفينية وجب الإقرار بأن دور مصر داخل القارة الإفريقية محدود وغير مؤثر وبلا أوراق وفق معطيات ومؤشرات ترتبط أساسا بالاستحقاقات الكبرى داخل الاتحاد الإفريقي.
ثانيًا، اقتصادي، حيث شهدت العلاقات بين المغرب ومصر، خاصة منذ عام 2019، تطورًا ملحوظًا، وبالتحديد في المجال التجاري، حيث برز قطاع تصدير السيارات المصنعة في المملكة إلى السوق المصرية كأحد أبرز مجالات التعاون؛ فقد ارتفع عدد السيارات المصدَّرة إلى نحو 5,000 سيارة مع نهاية عام 2025، مع توقعات ببلوغه 8,000 سيارة عام 2026، أي إن المملكة تستهدف تصدير ما يقارب 13 ألف سيارة خلال عامي 2025 و2026، في إطار مساعٍ إلى تقليص عجز الميزان التجاري بين البلدين_ عجز يغمض المغرب عينه بشأنه بمنطق الربح السياسي، وهو ما لم يتحقق. وفي المقابل يشكل السوق المغربي منفذًا مهمًا للصادرات المصرية، إذ عززت الشركات المصرية حضورها الاستثماري بالمغرب عبر إنشاء ثلاثة مصانع جديدة باستثمارات تقدر بنحو 100 مليون دولار، في مجالات صناعة الأثاث، والأدوات الصحية، وأجهزة الري الحديث. ورغم التحديات السابقة، ومنها ما أشار إليه وزير التجارة المغربي الأسبق مولاي حفيظ العلمي بشأن بطء الإجراءات المصرية في إدخال بعض المنتجات المغربية أو التحفظات المتعلقة بمنشأ بعض السلع، فإن المبادلات التجارية بين الطرفين واصلت مسارها التصاعدي، لتشكل نموذجًا متمايزًا في فضاء عربي إقليمي يفتقر إلى الانسجام والثقة المتبادلة، وهي ظواهر جديرة بالدراسة والاهتمام.
ثالثا، إستراتيجي، إذ شكلت الدولتان بإرثهما الحضاري امتدادا جغرافيا للربط بين الشرق والغرب، كما قامت كل من مصر والمغرب بأدوار مهمة خلال الصراع العربي-الإسرائيلي خلال القرن الماضي، وما استتبع ذلك خلال توقيع اتفاقية السلام كامب دايفيد بين إسرائيل ومصر. وغير خفي هنا دور المغرب، سواء العسكري أو الدبلوماسي، في مناصرة مصر. كما يعتبر الراحل الحسن الثاني مهندس اتفاقية السلام بين الطرفين.
أما حاليا فتراجع التنسيق العربي، خاصة بين الدول المؤثرة، فقد أفرغ الساحة لصالح إيران ووكلائها، ما أدخل المنطقة في حالة الفوضى، بل وصل الأمر إلى استباحة الدم الفلسطيني في غزة كنتيجة لتحالفات هجينة ومغامرات غير مدروسة لحماس_ دون غطاء عربي_ في مقاومتها لتحرير الأرض.
إستراتيجيا كذلك بات التنسيق المغري المصري ضرورة ملحة لبناء نظام إقليمي عربي أو لإعادة تشكيل خريطة الفضاءين المغاربي والإفريقي دون الغوص في تفاصيل تطابق المصالح في ليبيا وجنوب الساحل والصحراء، وصولا إلى شرق وغربا إفريقيا؛ تنسيق أو تحالف قد يكون منشودا على غرار التحالف الرياضي الذي يجمع البلدين وحققا من خلاله تواجدا قويا ومؤثرا على مستوى هياكل الاتحادين الإفريقي والدولي (الفيفا).
ختاما، من المفترض أنه في ظل كل هذه الاعتبارات الجيوسياسية والاقتصادية والإستراتيجية فدولة مصر تحتاج اليوم إلى إعادة قراءة تحالفاتها العربية وفق محاذير وحسابات جديدة، محاذير على الأرجح ترتبط بضرورة تسجيل مواقف صريحة وواضحة والإعلان عن اختياراتها وتحالفاتها والخروج من المنطقة الرمادية بشأن المغرب ووحدته الترابية، بدل الارتكان إلى لغة ومواقف أقرب إلى اللاموقف، وحياد جاف يبدو ظاهره الحكمة والرزانة لكن باطنه عدم الدعم وعدم الاكتراث بمصالح البلد الحيوية كحليف مفترض، أو يستبطن عدم الاصطفاف بلغة السياسة والدبلوماسية.
لكن، التاريخ يسجل ويكتب الحقيقة كما هي دون تبريرات واهية أو خطابات مصطنعة، هو التاريخ وحده سيسجل من كان مع المغرب وهو يخوض حروبا ضروسا، إعلامية ودبلوماسية على مختلف المستويات للدفاع عن وحدته الترابية، ومن فضل الصمت والانزواء إلى الخلف ومحاولة إرضاء الجميع إرضاء لمصالحه. هي لعبة أو تجربة قد تكون مغرية وسهلة لكن المغرب يتجنب خوضها بأوراق متعددة مثل رقعة الشطرنج على ساحة إثيوبيا بالنسبة لسد النهضة وغيرها من الأوراق والحلفاء في الشرق الأوسط وعلى التماس مع أرض الكنانة؛ مع الإشارة إلى أسباب حالت دون عدم استفادة المملكة من بعض الدول الخليجية الحليفة والمؤثرة اقتصاديا وماليا في مصر لاستمالة موقفها وإخراجها من منطقة الظل.
وأخيرا، أما آن الأوان للسلطة في مصر أن تعبر عن موقف صريح وواضح يليق بعراقة تاريخها وشهامة وأصالة شعبها، ولاسيما أن المواقف تسجل عبر الزمن وتتداول عبر الأجيال، وهي تعبر بشكل أو بآخر عن اختيارات الدول وتحالفاتها في الحاضر والمستقبل وإن تغيرت وتبدلت الأحوال؛ إذ من غير المفيد أن تحاول الدول أن تنتج مواقف مزدوجة وأن تكون مع الطرفين وفق المعادلة الصفرية التي ترضي الجميع دون كلفة أو تكلف عبر الركون إلى الصمت؛ وهي معادلة جد سهلة، لكن على الأرجح يتفادى المغرب تبنيها، خاصة عندما يتعلق الأمر بحماية وصيانة الوحدة الترابية للدول.