محمد زاوي
هؤلاء الذين يزدرون الغيب، الذات الإلهية، ويستفزون الناس في معتقداتهم؛ لا يعرفون معنى “الله”. فلو عرفوه لما ازدروا، ولو خاضوا غمار الرحلة إليه لكان لهم موقف آخر. بل إنهم يخوضون فيه وإليه رحلة خاصة، لكنهم لا يعونها. يتحدثون بغير حقائقهم، أما حقائقهم فتنطق “الشهادة”. “يوحى” إليهم كل ساعة، لكنهم لا يستقبلون. بينهم وبين الغيب ألف حجاب، بل من الحجب بلا عدد. ينكرون، فلا ينتبهون إلى أن معرفتهم في النكران. ينفون الغيوب، فتأبى أجسامهم وأنفسهم وخباياهم إلا أن تسبّح!
الغيب في الخلق معنيان:
-غيب الوجدان/ الوحي: غيب نتصوره بما نعرف، بما بلغناه من معرفة دينية وفلسفية وتجريبية واجتماعية، نتصوره بوساطات نحن فيها مغتربون. ورغم اغترابنا فيها يأبى الغيب إلا أن يتجلى من خلالها خالدا للناس، لحاجاتهم وآفاقهم في التأمل والسلوك. من أمعن النظر، من أمعن تخليص الذات ليمعن النظر، في غيبه يعيش، لا يخرج لتاريخ إلا عائدا لغيب. مساحات شاسعة للنظر، لمعرفة غير معتادة، فينا إليها استعداد، لكننا لا نراه. جهل مختلف، لكن لا حديث عنه! لكل من هذا الغيب مقدار، أما “الفناء فيه” فذوق صعب المنال، إذ فيها يُطوى زمن التاريخ في زمن الكون، ثم يطوى هذا في زمن “الميتا-كون” (اللانهاية).
-“غيب” الاجتماع/ التاريخ: غيب الحوائل التي يأبى “غيب الوجدان” إلا أن يتجلى من خلالها؛ حمّال وجهين: يحفظ الغيب، ويخدم الإنسان في تاريخه. إلا أنه عندما يحول لا يعرف كثير من الناس غايته في التاريخ، ولا “غيب الوجدان” الخفي في ثناياه. وأغلب المنكرين لا يحصل لهم تمييز الغيب عن التاريخ، “غيب الوجدان” عن “غيب التاريخ”، فيزدرون ويسيئون بحثا عن الحقيقة ورفضا لحوائل التاريخ. الخلاف هنا اجتماعي، تاريخي أساسا، لا يستهدف “غيب الوجدان” إلا وهماً. والمفارقة أن الكمال يخلد في النقص، الوحي يستمر في التاريخ، الوجدان يعيش في الاجتماع؛ من استهدف الثاني لم يسلم من استهدافه الأول.. وهذا من جدل “الدين في التدين”..
إننا في حاجة إلى دخول غمار “علم كلام جديد”، يمتح من مختلف المدارس الكلامية لا يخرج بها عن “عقيدة الجماعة/ الدولة” بالضرورة، بل يغذيها بما به تدخل العصر، وبما به تساهم في تدبير الزمن السياسي والاجتماعي العام، وبما به تخاطب الحيارى والمنكرين والشاكين والعدميين فتفتح أمامهم أبوابا جديدة من المعرفة، أنكرتها “الحداثة الغربية” لكنها تأبى الصمور، فنراها في سلوك العاشقين كما نراها في “تخبط” المنكرين.. على العلماء والفقهاء والمفكرين أن يساهموا في رفع الحيرة وكشف الغمة وإنقاذ وجدان الإنسان من قيود عموم التاريخ زخصوصه، من قيود التفاوت وتجليه الحديث (الرأسمالية).
لا ينبغي لنا أن نضيع “جوهر الإنسان وحقيقته” في “جوهر العلاقات الاجتماعية القائمة”.. يجب أن نرى “الروح” كما نرى “رأس المال”.. غاية صعبة، عمل في تفاوت، وآخر في غيب.. تدبير في تاريخ، وتحرير في وجدان.. ليست مهمة فقهاء الشريعة “تاصيل” التدبير فقط، على أهمية ذلك؛ وإنما من مهامهم أيضا، حفظ الوجدان في خضم هذا التدبير.. إلى أي حد يعير التاريخ اهتماما لهذه المهمة النبيلة؟ الجواب في أحوال الحيارى، المنكرين، المستعلين بأهوائهم، سواء كانت إقرارا باطنه إنكار، أو إنكارا باطنه إقرار.. لو عرفوا معنى الله، لما أنكروا في إقرار، ولما أقروا في إنكار؛ لاستحال ظاهرهم وباطنهم وحدة واحدة هذا طريقها ذهابا وإيابا: الوحي – ما قبل الوحي – ما قبل التاريخ – ما قبل الإنسان – ما قبل الحياة – ما قبل الكون – الغيب. هذا طريق للحيارى، لكن يحتاج دربة، من تعوزه تكفيه الشخوص وبركات الرموز!