د. الناجي لمين. أستاذ جامعي في دار الحديث الحسنية. الرباط
شاهدت اليوم مقطع فيديو لأحد أساتذة مادة علم الاجتماع كنتُ قد التقيتُه عندما شاركت في حلقة متلفزة حول مدونة الاسرة، وكان هو مسيرَ الجلسة. رأيته في هذا المقطع يتحدث عما سماه “النص الاصلي” و”النص الشارح”، وقال إن النص الشارح شوه النص الأصلي، أي ان الصحابة والتابعين وأتباع التابعين وفقهاء الأمصار بعدهم شوهوا الإسلامَ، وهو ما شاء الله اهتدى إلى هذه النتيجة، يتحدث تماما كباقي المثقفين المغرورين من مدرسة المنار الذين جاؤوا بمقولة الفرق بين الشريعة والفقه.
قلت مرارا إن هذا المصطلح لا يعرفه علماء الأصول، وإن الشريعة هي النصوص مع فقهها، ولا يمكن تصور الشريعة دون عَقلٍ يفقهها؛ لأن الله سبحانه وتعالى تَعبَّدنا بتطبيق النصوص الشرعية، ولا يمكن التطبيق إلا بعد الفهم.
والأدلة على ذلك كثيرة جدا تخرج عن الحصر، منها النصوص التي تدل على تدير القرآن وفقهه، كما قال تعالى: “أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أفقالها”. وجاء في الحديث الصحيح: “نَضّرَ الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه”، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث يطبق القرآن بين أصحابه بضعا وعشرين سنة، فالله سبحانه وتعالى لم ينزل على رسوله ألواحا وأمَرَه أن يعطيها للناس. فمُكثُه صلى الله عليه وسلم هذه المدة الهدفُ منه تطبيقُ ما يَنزِل عليه وتفسيرُه للناس، وسَنُّ قواعد لفقه نصوص الشرع، حتى لا يَضِل المسلمون بعده. ولذلك قرر العلماء هذه القواعد بعد الصحابة ودوَّنوها.. فكل عالمٍ بهذه القواعد يَجب عليه أن يستخدمها في فهم النص، فما تحصل مِن فهمٍ فهو شريعة بالنسبة اليه وبالنسبة لمن يُقَلده، وكلُّ حكم أخذه من غير طريق القواعد فهو إما رخصة إن كانت ضرورة، أو اتباع للهوى..
ثم استمرت الجهود العلمية حتى صار هذا الفهم مذاهب أربعة، فمن تمسك بمذهب منها فقد أدى ما عليه، ولا يستطيع أكثر من ذلك.
إن الأساتذة الفضلاء الذين اعتقدوا هذه البدعة (بدعة التفريق بين الشريعة والفقه) عليهم أن يعيدوا النظر في تصورهم للشريعة، فإن هذا التفريق لم يعرفه العلماء على مدار تاريخ الاسلام، ولا يوجد له ذكر في علم أصول الفقه، وهو تفريق مرفوض عقلا، لأنه لا يمكن تصور شريعة بدون فقه.
إن القول بأن (الشرع هو المطلق وفهمُه نسبي) عبارة (خطابية) لا تحقيق وراءها، بل هي نِسبِيَّة مِن بِدَع الاستشراق، وروَّج لها أتباع مدرسة المنار. والقول بها إبطال للشرع من الأساس، لأن القطعيات نفسها غالبا ما تكون ناشئة عن فَهْم نصوص جزئية ظنية، انضمَّ بعضُها إلى بعض فارتقت إلى رتبة القطع.
الخلاصة: إن التفريق بين النص الأصلي والنص الشارح هو نفس ما يقوله المناريون في التفريق بين الشريعة والفقه، والكل يمتح من أساتذة الاستشراق، فهم فقط مقلدة وعقلهم عاطل عن إنتاج أي شيء له فائدة مرجوة.