8 أغسطس 2025 / 09:24

الفتوى كفعل تأويلي اجتماعي: نحو تأصيل عامل وقع الفتوى في تحديد النظر الفقهي

عبد الحي السملالي. باحث مغربي يقيم في فرنسا 

مقدمة نظرية: من الفعل الفقهي إلى الفعل الاجتماعي

في قلب كل فتوى، يكمن فعلٌ تأويلي يُعيد ترتيب العلاقة بين النص والواقع، بين المعنى والسلوك، وبين السلطة والمجتمع. غير أن هذا الفعل ظلّ في التصور الفقهي التقليدي محصورًا في منطق الاستنباط، مُجرّدًا من أثره الاجتماعي، ومنفصلًا عن دينامية التفاعل التي تُشكّل جوهر الحياة الدينية.

من هنا، يُقترح إدماج الفتوى ضمن أفق نظرية الفعل الاجتماعي، كما طوّرها مفكرون أمثال ماكس فيبر، جورج هربرت ميد، وأنتوني غيدنز، والتي ترى أن الفعل لا يُفهم فقط من حيث دوافعه، بل من حيث أثره، واستجابته، وقدرته على إعادة تشكيل البنية الاجتماعية. بهذا المعنى، تُصبح الفتوى ليست فقط جوابًا شرعيًا، بل فعلًا اجتماعيًا مركّبًا، يُنتج المعنى، ويُعيد تشكيل السلطة، ويُؤسس لزمن تأويلي جديد.

في هذا السياق، يبرز مفهوم عامل وقع الفتوى بوصفه أداة تحليلية تُعيد تعريف الفتوى من حيث أثرها، لا فقط من حيث بنيتها النصية. وهو بذلك يُحوّل الفتوى من خطاب مغلق إلى فعل مفتوح، ومن سلطة إملائية إلى سلطة تأويلية، ومن استجابة لحادثة إلى بناء لمعقولية زمنية تُعيد تشكيل الواقع.

القسم الأول: من الفتوى كنص إلى الفتوى كأثر

في التصور التقليدي، تُفهم الفتوى بوصفها جوابًا شرعيًا يُستنبط من الأدلة، وفق منهج أصولي مضبوط. غير أن هذا التصور يغفل البُعد الزمني والاجتماعي للفتوى، ويُعاملها ككائن نصي معزول، لا كفعل يتفاعل مع الواقع ويُعيد تشكيله. من هنا، يُقترح مفهوم عامل وقع الفتوى بوصفه محاولة لتجاوز هذا الانحباس النصي، والانتقال إلى تصور للفتوى كـحدث تأويلي–اجتماعي.

القسم الثاني: تعريف عامل وقع الفتوى

عامل وقع الفتوى هو القدرة الفعلية للفتوى على التأثير في البنية السلوكية والرمزية للمجتمع، عبر استجابتها للسياقات، وإحداثها لتحولات في المعنى، والسلوك، والمؤسسات. وهو كذلك أداة استشرافية تُستخدم لتقييم مدى وقع الفتوى المحتمل، وقياس أثرها الفعلي أو المتوقع في الواقع الاجتماعي.

بهذا المعنى، لا تُقاس الفتوى فقط بصحتها النصية، بل بقدرتها على إحداث أثر، أي أن تكون مستجابة، محوِّلة، ومؤسسة. ويُصبح تحليل الوقع مدخلًا لنقد المعقوليات الفقهية، ولإعادة بناء شروط إنتاج الفتوى.

القسم الثالث: الزمن التأويلي والقطائع الفقهية

إنّ الفتوى لا تُنتج فقط داخل الزمن، بل تُعيد تشكيله؛ فهي ليست استجابة لحادثة، بل بناءٌ لمعقولية زمنية تُعيد ترتيب العلاقة بين النص والواقع. غير أن هذا البناء لا يتم دائماً بسلاسة، إذ تعترضه قطائع فقهية تُعطل دينامية التأويل، وتُحوّل الفتوى إلى خطاب جامد.

ما نسمّيه هنا بـالقطائع الفقهية لا يُحيل فقط إلى لحظات تاريخية انفصل فيها الخطاب الفقهي عن الواقع، بل يُشير إلى عوائق معرفية بنيوية داخل العقل الفقهي، حالت دون تطوره، وأبقت الفتوى حبيسة منطق النص، ومنفصلة عن الزمن والسياق. هذه القطائع تُشبه في بنيتها ما يُسميه غاستون باشلار بـالقطيعة الإبستيمولوجية، أي لحظة نقد جذري تُعيد بناء شروط إنتاج المعرفة.

في السياق الفقهي، تتجلى هذه القطائع في الفصل بين النص والواقع، بين الفقيه والمجتمع، وبين الشرع والتاريخ. وهي ليست مجرد فجوات زمنية، بل انحباسات تأويلية تُعيد إنتاج المعقوليات دون مساءلتها، وتُغلق الفتوى داخل منطق الإلزام، بدل أن تُفتح على منطق الاستجابة والتحول.

من هنا، فإن إدماج عامل وقع الفتوى يُسهم في تفكيك هذه القطائع، ويُعيد وصل ما انقطع، ويُدرج الفتوى ضمن منطق التحول لا الثبات، وضمن منطق التأويل لا الإملاء.

وسيُفصّل مفهوم “القطيعة الفقهية” في ورقة مستقلة لاحقة، تُعالج بنيته المعرفية، وتُقارنه بمفاهيم فلسفية كالقطيعة الإبستيمولوجية، والزمن المغلق، والسلطة التأويلية، في أفق بناء نظرية جديدة للفتوى كخطاب زمني–اجتماعي.

القسم الرابع: أدوات قياس وقع الفتوى

تُقاس فعالية الفتوى من خلال مؤشرات نوعية مثل الاستجابة المجتمعية، التحول السلوكي، إعادة إنتاج المعنى، والسلطة الرمزية؛ ومؤشرات كمية مثل الانتشار الرقمي، معدلات التفاعل، التحول المؤسسي، والزمن التأويلي. يمكن تصور نموذج تحليلي يُدمج هذه المؤشرات في شبكة تفاعلية، تُتيح للفقيه أو الباحث أن يُقيّم وقع الفتوى قبل إصدارها، ويُتابع أثرها بعد صدورها، باستخدام أدوات تحليل الخطاب، الذكاء الاصطناعي، ونماذج التفاعل الاجتماعي.

القسم الخامس: نحو تجديد الفتوى عبر تحليل وقعها

إدماج عامل وقع الفتوى يُعيد بناء شروط الإفتاء، ويُضيف شرطًا جديدًا: الوعي بالسياق وتأثير الفتوى فيه. كما يُتيح مساءلة المعقوليات الفقهية، وتحويل العلاقة بين الفقيه والمجتمع من سلطة عمودية إلى تأويل تشاركي. الفتوى تُصبح بذلك وسيطًا معرفيًا، لا أداة إملاء، وتُعيد تشكيل السلطة الدينية بوصفها سلطة تأويلية، لا سلطوية.

خاتمة وأفق بحثي

يُشكّل هذا البحث محاولة أولى لتأسيس منظور جديد في دراسة الفتوى، يُعيد تأطيرها ضمن منطق التأثير، والفعالية، والمسؤولية الزمنية. يُبرز المقال كيف يُمكن لعامل وقع الفتوى أن يُعيد بناء شروط الإفتاء، ويُسهم في تطوير أدوات لتقويم الفتوى من حيث أثرها، واستجابتها للسياق، وقدرتها على بناء الثقة والتفاعل.

يفتح هذا النموذج المجال أمام عدة مسارات بحثية واعدة، من بينها بناء مؤشرات لقياس وقع الفتوى، دراسة حالات تطبيقية، تطوير نظرية اجتماعية للخطاب الديني، وتحليل المعقوليات الفقهية في ضوء أثرها الواقعي. وهو بذلك يُسهم في تجديد الفكر الإسلامي من الداخل، عبر أدوات مفهومية تُراعي التعقيد، وتُعيد الاعتبار للسياق، وتُفتح المجال أمام فقه أكثر مسؤولية، وأكثر قدرة على التفاعل مع تحولات العالم.