نور حريري. باحثة سورية
يؤلمني أن أرى كثيرا من الأصدقاء والزملاء الذين تشاركت معهم رفض الصوابية السياسية اليسارية، ورفض استخدام مفاهيم العنصرية والمركزية الغربية لنقد الغرب، هم اليوم يطلقون تعميمات مخيفة على ثقافة هذه المنطقة وتاريخها، الاستعماري وغير الاستعماري، ويلصقون تسميات مشوّهة بشعوبها وإسلامها السني والشيعي وباقي الطوائف، ويقارنون بسطحية بينها: هذه “دينية”، وتلك “دنيوية”، هذه “تحب الجمال”، وتلك “تحب الكراهية”. يختزلون نضال فلسطين في 7 أكتوبر، ويختزلون تاريخا ثقافيا كاملا في كلمات “مقاومة” أو “أسدية”، ثم يتحدثون عن المسلمين الذين يأتون إلى الغرب لنشر إسلامهم، متناسين أنهم أيضا جاؤوا لممارسة كراهيتهم لهذه الشعوب، فلا يختلفون عن النمط الذي يهاجمونه.
لا يؤلمني ذلك من منطلق ديني أو غيرة على المنطقة؛ لا يهمني أن أدافع عن، أو أهاجم، أي دين أو ثقافة، بل يؤلمني ذلك فكريا. لستُ ممن يساوون بين الثقافات والتواريخ والأديان، ولا أحب تلك النزعة، لكنني أفهم أن من يقارب ثقافة إسلامية بمفاهيم غربية، شأنه شأن من يقارب ثقافة غربية بمفاهيم إسلامية، سينتهي حتما إلى النتيجة نفسها.
أتوجّه في هذا الكلام إلى الشريحة الأولى التي تقارب ثقافة إسلامية بمفاهيم غربية، لأنها الأقرب إليّ في المكان، والهوى أيضا، وفي التعليم الذي تلقيته في الغرب: كيف تختلفون عن اليساريين الماديين، ويساريي المنطقة، الذين تحبون نقدهم باستمرار، وأنتم تروجون لتاريخ خطي معاكس يبدأ لا بوسائل الإنتاج (الاقتصاد) بل بالمفاهيم الثقافية (الأفكار)؟
إن بحثا جادا في ثقافة غير غربية لا يمكن أن يبدأ من مفاهيم غربية صمّاء مثل الفردية والحرية والديمقراطية، لأنك، ببساطة، لن تجدها وأنت تفتش سريعا في القرآن وبعض الأحاديث، وأنت تبقي عينيك مثبتتين على الواقع السوري وربما العربي الممزق.
بل يبدأ من نظرية المعرفة، من سؤال أساسي: هل هناك “نظرية معرفة” في الإسلام مثلا؟ نظرية المعرفة هي كناية عن الصيرورة وهي التي تفتح الفجوة بين الذات والموضوع فتنتج مفاهيم كثيرة. وعليه، إن بحثا جادا في الثقافة لا يقرأ الدين كدين، بل كحركة، كإمكانية، ويسأل ما نوع هذه الحركة؟ وما نوع المفاهيم التي تنتجها؟ ما الإمكانية المضمرة؟ ولماذا لا تنتجها اليوم؟ وهل أنتجتها سابقا؟
هذه الأسئلة، وإجاباتها (حتى لو كانت سلبية وغير مرضية، وحتى لو بقيت في مجال الثقافة دون الخوض في السياسة والتاريخ) هي الوحيدة التي أقبلها من شخص يفكر ويكتب أبحاثا وينشر مقالات باسم الثقافة والفلسفة.
أما من يصرّ على تثبيت عينيه على الواقع المباشر اليوم، وله كامل الحق في ذلك، ويتخذ موقفا سياسيا أو أخلاقيا محددا، فليفعل؛ لكن فليُبعد يديه عن الثقافة والفلسفة وتواريخ الأديان، ويعترف أن موقفه عاطفي وسياسي بحت.