28 يوليو 2025 / 17:24

قراءة معرفية في خطبة “تسديد التبليغ” (4)

محمد زاوي

عيد العرش المجيد: فرصة لتجديد العزم والبيعة

أكدت خطبة “عيد العرش العلوي المجيد” على عدةِ معانٍ، لعل أبرزها: دخول طاعة أمير المؤمنين في دائرة الإيمان واقتضاؤها للوحدة وتحقيقها للأمن والأمان. وقد بنت الخطبة معانيها وأحكامها على عدة نصوص شرعية، نرى أن الأساس فيها هو قوله تعالى “إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله” (سورة الفتح، الآية 10).

أما المقتضيات الأخرى والنصوص الأخرى فداخلة في معناه ومؤطرة بإطاره، إذ أن من بايع الخليفة/ السلطان/ أمير المؤمنين فقد ألزم نفسه -من باب الربط بين أمر الأرض وأمر السماء- بالسمع والطاعة وعدم الخروج عن الجماعة وتبني اختياراتها الدينية والمذهبية، وكذا السياسية والاجتماعية.

ومن أهم ما ورد في الخطبة قول صاحبها إن “الحق سبحانه حصر الإيمان في من آمن بالله ورسوله، وحافظ على جمع كلمة المسلمين بحيث لا يجوز التصرف في أمر جامع بينهم إلا بإذن الإمام. والأمر الجامع هو كل ما له علاقة بالشأن العام، من أمور الدين وقضايا الوطن”.

فليس أمر الجماعة أمرا دينيا فحسب، وإنما هي أيضا أمور الشأن العام وقضايا الوطن. فالإمام فيها مطاع كما يُتصرف فيها بإذنه، وفاء بمبايعته واعتبارا لأصل البيعة (“مبايعة الله”).

هذا إطار عقدي و”فكراني” يحتاجه المغاربة، وليس دخيلا على منظومتهم الثقافية، ولا على واقعهم السياسي والاجتماعي؛ وذلك لأنهم في حاجة إلى:

حفظ الدين بالدنيا: وهو حفظ الدين بالجماعة السياسية وتوزيع مصالحها.. ومهما كانت اختلافات الأفراد في تصور المسألة الدينية وامتثال أحكامها الفقهية والعقدية والسلوكية، وجب عليهم لزوم دين الجماعة في الاجتماع، في علنها وشأنها العام؛ كذا في شؤونهم الخاصة لمن رضي دين الإسلام ومذهب المغاربة، فـ”الخاص روح العام” والعمل الفردي القابل للعمل الجاري في الشأن العام (يقول عبد الله العروي في “مفهوم الدولة”: “القانون الخاص هو روح القانون العام”).

ومهما كان اعتراض الأفراد على تأويل سياسي في المسألة الدينية، فإن هذا التأويل لا يضر بها بالضرورة؛ وذلك من جهتين: من جهة إنتاج إيديولوجيا دينية من إيديولوجيا دينية سابقة، ومن جهة تحقق حفظ الدين بالإيديولوجيا الدينية (الدين بالسياسة الناجعة/ سياسة الدولة والجماعة).

حفظ الدنيا بالدين: ولا حرج في ذلك، بل هو من الدين وغاية ومقصد له. أما الحكم بالفساد أو الصلاح على الدنيا التي تُحفَظ فتقدير في الشأن العام، يحتاج إلى فهم لهذا الشأن وإحاطة بشروطه وظروفه وظواهره السياسية والاجتماعية والاقتصادية والذهنية، الوطنية والدولية، الكلية والجزئية.. فإذا تأكدت المصلحة العامة بالنظر السديد، فلتحفظ بالدين وأحكامه.

إذا كان السلطان يخدم هذه المصلحة، ويخدم بها وفيها الدين ويحفظه للإنسانية جمعاء؛ إذا كان كذلك فليُحفَظ حكمه بأحكام الشريعة والتأويل فيها بالوسائل المعروفة والتي من أبرزها: الترجيح داخل المذهب، الترجيح بين المذاهب، الترجيح بين المعاني العامة في الدين. وكله بغرض تأطير كل مصلحة عامة بحكم في الشريعة، يحققها ويحقق الغاية الدينية فيها ومنها.

تستحيل إمارة المؤمنين بهذا المعنى ضمانا لحفظ الدين ومقاصده واستمرار رسالته، كما تستحيل ضمانا لتطور البنيات الإنتاجية والنظم الفكرية والسياسية تطورا ضروريا وطبيعيا وآمنا لا يعيق التراكم المادي والمعنوي للجماعة/ الدولة.

والشرط في ذلك: بقاء الإمارة واستمرارها، وتقدم وعيها وممارستها في المسألة الدينية وغيرها. إن الاحتفال بعيد العرش المجيد وتخليد ذكراه فرصة سنوية للتذكير بتعلق المغاربة بعرش كان وما زال بالنسبة إليهم مصدر أمان وإلهام، ومصدر محافظة وتحديث.

والشواهد على ذلك من التاريخ العلوي عديدة، فقد كان السلاطين العلويون أوفياء للدين كما كان مسايرين -ولو من باب المحاولة- لمستجدات العصر وضروراته. فأشرفوا على مجالس سرد “البخاري” كما بنوا المصانع واستوردوا الخبرات.

وبعد استقلال المغرب وتأسيس دولته الحديثة، نهج الملوك العلويون نفس النهج فحفظوا الدين وواكبوا به العصر قدر مستطاعهم في الدولة والمجتمع، وأحسنوا التدبير الحديث في عالم متقلب لم يعرف استقرارا منذ الحرب العالمية الثانية.

هناك غاية كبرى: أن يتطابق الوعي والتدبير، العقل والواقع، لا أن يتقاطعا فحسب. وهذه غاية لا تؤتى بالتعقيب “الحداثوي”، وإنما بشروطها الوطنية والخارجية، الإنتاجية والفكرية. فلا يجوز اصطناع العجلة “الحداثية” في شرط لا يتحملها.

تكمن “الحداثة” الحالية في العمل الناجع، في ورش التحديث الذي تحفظه الإمارة وتشرف عليه في مختلف مناحي الحياة العامة والخاصة. هذه ضرورة لكل حديث في التحديث، يفرضها تمركز البديل في يد الإمارة تاريخيا وواقعيا.

ولذلك فلكل “حديث في التحديث” سقف، وسقفه لدينا مدى القدرة على الإنجاز. فكما تُحفظ الغاية في العقول وتُطلب في النفوس، وجب إلزامها بقيود الضرورة في واقع الناس. فلا معنى للحديث عنها، لتأملها وتمنيها، إذا هي ضُيعت بإهمال الضرورة وطلبت كما هي في واقع لا يحتملها ولا يقبل استعجالها. وهذا من جدل “الحداثة في التقليد والتقليد في الحداثة”.