محمد زاوي
لم يتوقف الاستهداف الإمبريالي لمصر، كما هو استهداف عموم الوطن العربي، منذ عام 1956، بل قبل ذلك بأساليب سياسية وثقافية مورست بالوكالة لإرباك خطها الجديد ومشروعها التحديثي والقومي. وما إن أحكمت مصر قبضتها على شأنها الداخلي، حتى تحركت باتجاهها ثلاث قوى رأسمالية، هي فرنسا وبريطانيا والكيان الصهيوني في “عدوان ثلاثي” (عام 1956) يرفض تأميمها لمقدراتها وحقوقها السياسية؛ فكان الأمر أشبه بمعارضتين للسياسة المصرية، واحدة في الداخل وأخرى في الخارج، فما تدخلت الثانية إلا بعد أن استنفدت الأولى أغراضها.
وخلال عام 1967، اتخذ الاستهداف بعدا آخر على إثر التحولات التي عرفتها العلاقات الدولية آنذاك، خاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي. فإذا كان التناقض بين الطرفين لم يكن قد بلغ مستواه التناحري عام 1956، وإذا كان “العدوان الثلاثي” في جوهره تعبيرا عن تغير في ميزان القوى ضد مصلحتي القوتين الاستعماريتين القديمتين فرنسا وبريطانيا، فإن “عدوان 1967″ عبّر في حقيقته عن استهداف إمبريالي للمشروع القومي والإصلاحي العربي بقيادة مصر وسوريا.
وكان من نتائج هذا العدوان: توسع الكيان الصهيوني على حساب السيادة الترابية لكل من القاهرة في سيناء ودمشق في الجولان (وكذلك في غزة والضفة على حساب الأردن وفلسطين)، واندلاع حروب استنزاف بين الطرفين (1967-1970)، خاصة بين مصر و”إسرائيل” إرباكا للوضع القائم في أفق اندلاع حرب جديدة.
وهو ما حصل بالضبط بعد حوالي ثلاث سنوات من توقف حروب الاستنزاف، إذ شنت كل من مصر وسوريا حربا مباغتة على الكيان الصهيوني عام 1973. ورغم ما حققته القوتان العربيتان من تقدم في سيناء و الجولان، إلا أن ظروف التناقض الدولي بين أمريكا والاتحاد السوفييتي لم تسمح ببلوغ الحرب مداها الأخير، فتوقفت على وقع تكتيكين عربيين: تكتيك مصري يستهدف استنزاف الكيان الصهيوني بالسلام (وهو الاختيار الذي انخرطت فيه دول عربية في ما بعد)، وتكتيك سوري يستهدف استنزافه بالحرب (وهو الاختيار الذي تقاطعت فيه سوريا مع إيران).
وإذا كانت مصر قد اختارت “الاستنزاف بالسلام” وحسبت له حسابه، فإن الإمبريالية التي تستهدفها قد عملت على تقويض الحساب المصري وإرباكه من جهتين: من جهة تطويق مصر وتجريدها من أسباب مناعتها، ومن جهة تدنيس سمعة الدولة المصرية بـ”كامب ديفيد”.
وقد بقيت مصر تواجه هذا الاستهداف بشقيه، وتسدد فيه وتقارب، إلى أن جاءت فتنة “الربيع” (2011) بما هي غارة إميريالية أطلسية على دول الوطن العربي، في سياق اتسمت فيه العلاقة بين مصر و”إدارة أوباما” بالتوتر حسب ما يحكيه أحمد أبو الغيط آخر وزير خارجية في دولة حسني مبارك (في حوار له على برنامج “رحلة في الذاكرة”/ RT عربية).
لقد شكل “الربيع”/ الخريف استهدافا حقيقيا لمصر، أربك نظامها السياسي وكاد في ظرف سنتين (2011-2013) أن يقسمها إلى أربع دول أو أكثر (القاهرة/ مصر الليبية/ مصر الفلسطينية/ مصر السودانية/ مصر السورية/ الخ)، بل كاد أن يضمِّن “كامب ديفيد” المضمون الذي أريد لها، وهو تخليها عن فلسطين بل عن سيناء لفائدة “الاستراتيجية الإسرائيلية” في غزة.. وقد كانت “2013” جوابا على تجدد الاستهداف الإمبيالي الأطلسي تحت قناع “الربيع”.
واليوم، يتجدد الاستهداف تحت شعار “فلسطين” وبمشاركة “فاعلين” يتناسون ممانعة مصر في ملف تهجير سكان غزة، ويتناسون دورها السياسي والدبلوماسي (وربما العسكري) في إسناد المقاومة، ودورها الفعال في المفاوضات الجارية طيلة حوالي سنتين من العدوان، ودور سلفييها ويسارها وأزهرها وأقباطها وكافة شعبها في دعم حقوق الشعب الفلسطيني؛ يتناسون كل ذلك ليستهدفوا مصر بحديث مكذوب ومغرض يتهم إدارتها بإغلاق معبر رفح.
والحقيقة أن مصر لا تغلق المعبر ولا تمنع مرورا عبره إلى غزة وإنما هو المنع من الجانب الآخر، من الواجهة “الإسرائيلية” للحدود. وكأن الأطراف المحتجة على الإدارة المصرية تساهم -بوعي أو بغير وعي- في إخفاء مسؤولية الكيان على الإغلاق بتوجيه نقدها واحتجاجها إلى جهة غير معنية، بل مستهدَفة هي نفسها من قبل “الكيان” إياه.
وهنا يجب التأكيد على أن استهداف مصر بـ”المعبر” ليس إلا نقطة إضافية في جدول أعمال استهداف الإمبريالية لسيادتها وسياستها عبر عدة وسائل، من أبرزها: سد “النهضة”، والضغوط المالية، والاستثناء من التسويات الإقليمية، وممارسة نوع من الرقابة على تسلحها (خاصة في علاقتها بالصين)…
قد تخفف الإدارة الأمريكية الجديدة من حدة هذا الاستهداف، وهو ما يفهم من تصريحات ترامب بخصوص “سد النهضة”؛ إلا أن الكيان الصهيوني ينظر دائما إلى مصر كمصدر تهديد يجب أن توضع حدودٌ لسياسته.
في هذا الإطار، تحدثت تقارير عن إمكانية استهداف مصر عسكريا بعد تحييد خطر غيرها من الجبهات، وهو ما يفسر التقارب الإيراني المصري قبيل العدوان “الإسرائيلي” على الأراضي الإيرانية.