لحسن عدنان
لماذا يقرأ إنسان نصوص الدين فيصبح متطرفًا ومتوحشا؟
ويقرأ إنسان آخر نفس النصوص، فيصبح بالناس رحيمًا وعليهم مشفقًا؟
سؤال يستحق التأمل.
أكيد أن هناك عددًا من الأجوبة والتفسيرات والتبريرات المتداولة، من بينها من يتحدث عن تأويل النصوص، أو سوء الفهم، أو نوازع السياسة، أو فساد التربية والتعليم، أو غلبة الأهواء وسيطرة الأنانيات… لكنها تبقى جميعها إجابات جزئية ، وإن كانت تحمل شيئا من الصحة، ولكن لا تمسّ لبّ الإشكال.
برأيي المتواضع أو على الأقل إن الجواب الذي قد يجمع كل هذه الأشتات، هو ذلك المتعلق بمسألة القابليات المختلفة.
وهذه القابليات لا تنشأ من فراغ، قد يكون فيها ما هو جيني وراثي، ولكن في مجملها هي حصيلة تراكمات وتجارب وتربية وذوق وبيئة وعلاقات وسياقات نفسية واجتماعية وثقافية متداخلة.
فمن يتربّى على الحب في وسط ثقافي وفكري مفتوح، ويتعلم أن يقبل بقيم التعددية والاختلاف والتباين بوصفها شرطًا من شروط الوجود، من يُعلَّم منذ الصغر أن الآخر ليس تهديدًا له بل قد يكون إمكانا للتكميل والتعارف والتواصل، ومن ينشأ على أدب الإصغاء والاحترام المتبادل، سيصبح معتدلاً بالضرورة.
سيقرأ النصوص الدينية، ويجد فيها سُلَّمًا يرتقي به نحو الأعلى، نحو الأرحب، نحو الأنقى.
بينما من ينشأ في بيئة عدائية مغلقة، لا ترى في الآخر سوى صفات الكفر والفسوق والانحراف، وتُشحن روحه بالحقد والكراهية ورفض الاختلاف، فلن تكون قراءته للدين الا سوداوية، ولن تكون نصوص الدين بالنسبة له سوى أدوات كراهية وانتقام وعدوانية وتمركز حول الذات.
فما هي القابلية؟
القابلية، في أبسط تعريفاتها، هي الاستعداد النفسي والعقلي والوجداني الذي يجعل الفرد مهيأً لقبول فكرة أو رفضها، لتلقي نصٍّ بطريقة معينة أو تأويله بطريقة مختلفة.
إنها ذلك الجهاز الداخلي الذي يستقبل المعاني والمعارف ويعيد تشكيلها حسب بنائه وتشكيله.
هي القالب أو البراديجم الذي يُحدِّد نوع الفهم، وطبيعة التلقي، وكيفية التفاعل.
وقد عرّفها بعض المفكرين بأنها “الاستعداد اللاواعي للفهم في اتجاه معين”، أي أن الإنسان لا يدخل إلى النص الديني (أو أي نص رمزي أو تعبيري آخر) وهو محايد أو موضوعي، بل يأتي مزودا او بالاحرى مسلحا بخلفياته، بمخاوفه، بطموحاته، بوعيه، وإكراهات هويته ومشاكله… ومن هنا، فإن النص لا يتجلى له كما هو بشكله الخام من مصدره، بل كما يحب أو يهوى ان يقرأه ويؤوله ويستنطقه.
القابلية لا يمكن اختزالها في مجرد “استعداد للخير أو للشر”، بل هي مزيج نفسي فكري ومعرفي وسلوكي يحدد زاوية التلقي وقنوات الفهم، وسبل إخراج وإعادة تشكيل الرسائل المتلقاة.
وكلما كانت هذه القابلية ضبابية أو محرفة أو مشوَّهة أو غير ناضجة أو مأزومة، جاءت القراءة منحرفة ومتوترة ومتشددة وإقصائية، بل قد تُنتج النقيض تمامًا لما تقوله النصوص نفسها.
فلا عجب اذا والحال هذه، أن نجد كثيرًا من الناس لا يبحثون في الدين عن الحق وعما يهذب سلوكهم ويرقى بأفعالهم، بل عن تأكيد قناعاتهم وذواتهم وإشباع شحناتهم النفسية وتبرير ميولاتهم بل وحتى أمراضهم وانحرافاتهم.
الدين – بالنسبة للبعض – ليس تعايشا مع المختلف ، أوعيًا أخلاقيًا نبيلا، بل مجرد غطاء يواري به الفرد قناعاته ومشاعره وميولاته ، حتى لو كانت غارقة في العصاب والتوحش والتطرف والتعالي على الخلق أجمعين.
وهنا تلعب القابلية دورًا حاسمًا: من كانت قابليته أميل للرحمة والتعاطف والإحسان، سيجد في الدين آيات الرحمة والخير والتضامن، ومن كانت قابليته أقرب للقسوة والشدة والغلظة، فلن يرى إلا نصوص العذاب والقتل وقطع الرؤوس، ولن يسمع من الدين إلا أصوات النار والجلد والرجم و التفجير.
بل الأدهى والأخطر من كل ما سبق ، أن القابلية تصوغ لصاحبها “إلهًا” على مقاسه لا أقل ولا أكثر.
من كان متسامحًا رحيما حنونا سيتخيل إلهًا يحبّ الخير والسماحة و الجمال والرحمة والصفح،
ومن كان باطشا حاقدًا مستبِدًّا، سيتخيل إلهًا قاسيًا فظا غليظا ،يبطش بالخلق ويعاقب بلا رحمة، حتى على أبسط الاخطاء الإنسانية.
هذا الانزلاق النفسي الخفي، والذي قد لا يعيه صاحبه ولا يملك من الادوات المعرفية والتأهيل النفسي ما يساعده على تحسسه وفهمه، هو ما يجعل التدين أحيانًا لا علاقة له بجوهر الدين.
فقد تكون نصوص الدين نفسها راقية، متوازنة، تدعو إلى الخير والعدالة والجمال،
لكن حين تلامس نفوسا مريضة وقابليات مشوّهة، تتحوّل إلى أدوات للتكفير، للهيمنة، للعدوان، أو حتى لجلد الذات وتحميل النفس البشرية ما لا يطاق.
من هنا فإن أي خطاب ديني إصلاحي وحقيقي يروم إعادة الامور الى نصابها، لا يجب أن يركّز فقط على “تنقية النصوص” أو “تجديد الخطاب الديني”، بل قبل ذلك وبعده، يجب ان يهيء الارضية وينقي الاجواء ، وذلك بالعمل أولا على إعادة تشكيل القابليات الإنسانية.
والقابليات لا تُصلَح بالوعظ الأجوف ولا بالخطب الرنانة ولا بالدروس الفقهية الجافة ، بل تُبنى وتعالج عبر التربية السليمة، والتعليم النقدي، والحرية الفكرية، والفن الراقي، والحياة المشتركة، والعدالة الاجتماعية، والانفتاح على الآخر، وتهذيب النفس، ونبذ التعالي والعنصرية، و محاربة الأنانية وادعاء الفضل والخيرية.
لا بد من بيئة سليمة وطاهرة ، وتربة جديدة، وسياق جديد مساعد.
فمهما كنت بارعا في فنون الزراعة، فليس بإمكانك أن تنبت زهرًا في أرض سبخة.
وكذلك لا يمكن أن تنتظر من الدين أن يغيّر الناس، ما لم تساعد هؤلاء الناس بكل الطرق الممكنة أن يغيّروا هم أولاً ما بأنفسهم، وما بأرواحهم، وما بعقولهم ، وما حولهم من بيئة ووسط وثقافة وسياق عام.
على سبيل الختام، قد تكون نصوص الدين في ذاتها بريئة.
لكن الإنسان الذي يتلقى هذه النصوص، ويتفاعل معها، ليس صفحة بيضاء، بل هو “منظومة معقدة جدا” يحمل بداخله حمولة ثقيلة من القناعات و العقد، والمخاوف، والتصورات المسبقة، والأحلام المكبوتة، والولاءات والتحيزات .
وما لم نعترف بأن المشكلة، في كثير من الأحيان ليست في نصوص الدين بل في قابليات المتدينين، فسنظل ندور في حلقة مفرغة.
ولهذا، فإن أي مشروع إصلاح ديني جدي و حقيقي، يجب أن يبدأ من البدايات ، أي من إعادة تشكيل هذه القابليات وذلك:
بتحرير الإنسان من الخوف والكراهية وسوء الظن بالآخر،
بتعليمه أن يحب الناس مهما اختلفوا معه في الوانهم واديانهم وطوائفهم ولغاتهم،
بإشراكه في صناعة المفاهيم والمعاني والقيم بدل اعتماد سياسات الحشو والشحن والتلقين، بجعل الدين قناعة فردية وخيارًا واعيا وناضجًا، وليس اكراها وحجرا و نفاقا ومجرد عادة موروثة قسرا.
اذا استطعنا ان نوفر للإنسان هذه الشروط التي ترقى بإنسانيته اولا ، وتحمله مسؤولية اختياراته… ستصبح جل نصوص الدين أبوابا وسلالم تفتح للإنسان آفاقا رحبة وسبلا ميسورة نحو السماء .
وإذا لم ننجح في ذلك فان هذا الانسان سيرتكس ويفشل، وتصبح نصوص الدين مجرد أدوات لقمع وسجن الناس في جحيم الأرض، والغوص بهم إلى الدهاليز المظلمة إلى ما تحت الأرض، وذاك هو العذاب الأليم.