22 يوليو 2025 / 09:40

في فهم الظواهر السياسية: الحاجة إلى قراءة مركبة

وليد عبد الحي

الجهاد الأكبر في فهم الظواهر السياسية

تتسلل منظومات المعرفة الاستبدادية في تحليل الظواهر السياسية من خلال ضغط “اللاوعي” على المراقب للظاهرة فيتبدى المشهد له طبقا لهذا المتواري تحت ركام كل ما نتوهمه بأنه الوعي، ولأن الظاهرة السياسية هي ظاهرة “لعوب وغوايتها عالية” ولأنها متاحة لكل مستوى عقلي، فان فهمها واستشراف مآلاتها يستوجب سلسلة من المضادات العقلية للحماية من التضليل.

ان الاطلاع على الأدبيات العربية من البحوث السياسية أو المقالات السياسية او التداول الفكري على صفحات وسائط التواصل الاجتماعي المختلفة، يكشف عن سطوة بُعد محدد هو “أحادية العلة” التي هي بدورها المظهر الخارجي لترسبات اللاوعي، وهو ما يستدعي معرفة “السر وأخفى”.

وهنا يجب التمييز بين خطأين: خطأ العلم وخطأ اللاوعي، فالاول يعالجه المنطق النظري والتحليل المخبري والمراجعات المنهجية وغيرها، اما الثاني فهو بحاجة لمعاناة كبيرة ذاتية وموضوعية، وهنا تكمن اشكاليات تفكيرنا السياسي.

1- لا تصدقوا أن هناك مفكرا سياسيا أصاب في كل تحليل، فحتى الدراسات المستقبلية ــ بكل ما فيها من صرامة منهجية ــ ما زال 20-25% منها يَضِل طريقه بشكل واضح، أما في أديباتنا العربية فإن لغة القطع واليقين تسود الى حد المكابرة الفاضحة.

2- تجاوز تعقيدات الربط بين السبب والنتيجة والنزوع للتبسيط: لتوضيح ذلك نقف عند المثال التالي: عندما تذهب إلى احدى الحدائق ترى زهرة في غاية الجمال، ولها رائحة عطرية نفاذة، فإن سالت عن نموها تبين أنها تنمو من تراب اولا وقمامة تم تحويلها لسماد ثانية ومياه في الغالب ملوثة او غير نظيفة ثالثا، فلو سألنا كيف تحولت القذارة الى جمال والروائح الكريهة الى عطور، هنا تبدأ تتضح تعقيدات فهم العمليات الكيمائية المعقدة، والظاهرة الاجتماعية “قد تمر” في كل ذلك.

3- أن الحكم على الظواهر الكبرى كالتحولات الاجتماعية والثورات والتغيرات التقنية او القيمية او حتى المناهج وفلسفاتها تستوجب عودة لتاريخ كل منها لرصد المحرك لها، لكن الكثير من التفكير العربي السائد لا يعرف عن تاريخ الظاهرة التي يتناولها الا النزر اليسير من ناحية ويكون التحليل اسير اللحظة الراهنة فقط، ولكنه يبني على هذا النزر اهراما من النتائج، بل اني قرأت لاحد المُعتدّين بعلمه دعوته ” لقراءة ومقارنة – نصوص الدساتير- الاسرائيلية والسعودية والبريطانية لفهم سياسات الدول الثلاث “، مع أن الدول الثلاث ليس فيها دساتير.

4- طغيان الانتماء الأيديولوجي او الوجداني على التحليل، وهنا يتساوى الوضعي والديني، والقطري والقومي، والبدوي والحضري، والغني والفقير، ولا نقصد هنا بأن عليك التحلل من هذا الانتماء بل المطلوب تحييد الانتماء لحظة التحليل وعدم السماح للتفكير الرغائبي بالسيطرة، وبعد ان تصل للنتائج لك كل الحق ان تعود لانتمائك لتحاكم مصداقيته او فشله وتتكيف مع النتائج.

5- اعتبار الشاذ هو القاعدة: عندما تضع نتائج دراسة لظاهرة معينة فانك تصل لنتائج خلصت لها من عشرات المراجعات والنماذج والبيانات..الخ، فمثلا نسبة العولمة (الترابط العضوي بين المجتمعات تقنيا وماليا وثقافيا…الخ) تزداد عند كل المفكرين تقريبا وإن تباينت طرائق قياسهم، لكن خلافهم حول سرعتها أو أوزان مؤشراتها في تشكيل الظاهرة…الخ، ولم يزعم أي من مفكري العولمة أنها اكتملت، فيخرج عليك احدهم ليضرب لك مثلا على حالات شاذة، ويهمل كل المؤشرات التي تم قياسها من عشرات مراكز الابحاث والجامعات، فالقاعدة ُتبنى على العام لا على الخاص، بينما الخاص له منهجيته لفهمه، ويكفي طرح السؤال التالي: لماذا عدد الحروب ” بين الدول” يتراجع بينما عدد الحروب داخل الدول يزداد؟ عودوا لمفكري العولمة للاطلاع على التفسير، وليس مطلوبا التسليم له، بل لترى أن الحكم على الظاهرة الفردية لا يصلح للتعميم.

6- لن اتوقف عند “النفاق السياسي” في التحليل، فهذه ظاهرة مرضية يغذيها تراث واسع من الشعر والادب والامثال وغيرها، لكن لهذا النفاق وجه يستحق التأمل، فمن يجلس على الكرسي يتلبسه زهو بأنه “علام الغيوب والسر وأخفى”، وهو ما يجعل الكرسي هو من يحدد له وزن افكاره التي قد تكون تافهة تماما، لكن صمت السامعين يجعله يتورم عقليا فيشتط في غوايته.

ذلك يعني أن لدينا احادية في السبب واحادية في النتيجة واحادية في المنهج الرابط بينهما، فلو اخذنا بعض النماذج:

أ‌- ما يجري في سوريا: رغم انه نتيجة لمتغيرات تاريخية وجغرافية وسياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية ونفسية واجتماعية وتتمدد في الابعاد المحلية والاقليمية والدولية، فإن أغلب التحليلات تتمترس وراء سبب واحد.

ب‌- ما جرى في كاليفورنيا الأمريكية هذا العام ودلالاته: هو نتيجة لظاهرة تاريخية (وهناك دراسات حول النزعة الانفصالية لهذه الولاية) وجغرافية (تأثير الموقع للولاية وعليها دراسات) ووزنها الاقتصادي (فهي احد مراكز الثقل في الاقتصاد الامريكي) والبنية الاجتماعية ونسبة المهاجرين فيها…وعشرات العوامل، لكن احدهم اكتفى بأنه كان في زيارة لكاليفورنيا ليحكم على كل ذلك استنادا لمشاهدات عابرة، مع ان كل علماء العلوم الاجتماعية يقرون بأن الظاهرة الاجتماعية بمعناها الواسع لا تولد ناضجة بل لا بد من فهم صيرورتها، فكوندراتيف عاد لقرون ليتنبأ بتراجع النظام الاشتراكي وتبينت صحة تقديراته بعد سبعين عاما تقريبا، وبول كينيدي حفر خمسة قرون ليصل لاستنتاجاته التي صاغها وبحذر شديد. وقس على ذلك الكثير، بنما نحن نحكم عليها من مجرد مشاهدة عابرة.

ت‌- اتابع وبدأب مرهق ما ينشر من دراسات عن طوفان الاقصى، وأكاد اجزم بان احدا لم يتنبأ بأن منطقة بمساحة ضيقة جدا، وعدد سكان محدود جدا، ومقاومة مسلحة لا تقارن بأي شكل مع عدوها من حيث الامكانيات، وحصار خانق من العدو وذوي القربى منذ 17 سنة، تستطيع الاستمرار في المقاومة كل هذه المدة وما تزال، رغم ذلك فالكثير من الكتابات العربية ووسائل اعلام النفط تحديدا اعتبر الأمر “مجرد أيام”، وكان الشطط الاكبر عند شعراء ديوان خليفة التنسيق الأمني.

إنني أدعو الى “جهاد أكبر” في مناهج تفكيرنا، عندها قد ننتصر في جهادنا الأصغر. ربما.