21 يوليو 2025 / 10:58

من عبد الناصر إلى حماس: العقلية العربية.. ومعضلة عدم الاعتراف بالخطأ

لحسن عدنان

العقلية العربية.. وجريمة عدم الاعتراف بالخطأ والخطيئة – حماس نموذجًا

 

حين يتكرر الخطأ ولا يُصحح يصبح خطيئة، وعدم الاعتراف بالخطإ-الخطيئة هو جريمة لأنه يجر على الشعوب مصائب وويلات وحروبا جهنمية.

الحديث عن العقلية العربية هو للضرورة، لأن بعض ملامح وخصائص هذه العقلية تؤثر كثيرا في الثقافة المغربية، خاصة مع هبوب رياح ما سمي القومية العربية والصحوة الإسلامية.

– كاتب هذه السطور يعتبر انتماءه فقط للمغرب أرضا وثقافة وحضارة، وإنما الحديث عن العقلية العربية فقط لأن لها امتدادات وتيارات في المجتمع المغربي، ومن هنا ضرورة التنبيه للآثار المترتبة عن ذلك خاصة الآثار السلبية.

يصبح الفكر السياسي والأخلاقي، لشعب أو لأمة ما، حيا وفاعلا حين يقوى الفاعل السياسي والثقافي والاقتصادي، وغيرهم، على الاعتراف بالخطإ بكل جرأة وشجاعة وروح رياضية.

فالاعتراف بالخطأ يشكل لحظة نضج عميقة، وقدرة على تحمل المسؤولية، ومفترق طرق بين وعي يحترم الحقيقة والشعب، وذهنيّة تحترف التمويه والخداع والضحك على الجماهير. غير أنّ قطاعا واسعًا من أتباع وضحايا ما يمكن تسميته “العقلية العربية”، كما تبلورت تحت تأثير قرون من الاستبداد والتسلط والتمجيد القبلي والذهنيّة الخرافية وقوة الأساطير المؤسسة، لا يزال يجد صعوبة قصوى في النظر بحياد وموضوعية في مرآة الواقع، ومواجهة عيوبه، وقول تلك الجملة البسيطة التي أنقذت شعوبًا كثيرة، في مقدمتها شعبا ألمانيا واليابان ابان الحرب العالمية الثانية: “لقد أخطأنا”.

هذه الجملة من كلمتين قادرة أن تنقد أجيالا، وتغير معادلات، وتقلب موازين، وتبدل أحوال شعوب المنطقة. فهي المقدمة الضرورية على درب الإصلاح والنقد الذاتي والتغيير الجوهري وتربية الأجيال على مواجهة الذات وتحمل المسؤولية والجهر بالاعطاب التي يراد لها أن تبقى مغيبة والاعتراف بها جريمة.

ليس المقصود بالعقلية مجرد طريقة تفكير فردية، بل هي ذلك النسق الجمعي الذي يتشكّل من العادات الثقافية، والدين الموروث، والتربية السلطوية، والإعلام الشعبوي، والتعليم التلقيني، والسياسة التدجينية، وعدم القبول بالاختلاف والرأي الآخر. عقلية تُحدِّد للناس كيف يجب أن يفهموا أنفسهم ويربوا أبناءهم، وكيف يجب أن يفسّروا العالم ويتعاملوا مع الآخر من حولهم، ويبرّروا الفشل أو يخفوه أو ينكروه.

وفي السياق العربي، تتّسم هذه العقلية بجملة خصائص بنيوية جعلت منها عائقًا خطيرًا أمام كل مشروع نهضوي أو تنويري أو تحرّري حقيقي.

أول هذه السمات هي الزهو المَرَضي بالذات. هناك اعتقاد راسخ بأن “نحن الأفضل”، و”نحن الأعز”، و”نحن الأذكى”، ” لنا الأرض ومن أمسى عليها”، ” نحن امة المجد والخيرية”، وهي مقولات تتردّد ليس فقط على الألسنة، بل في المناهج والمقررات الدراسية وفي الخطاب الديني والإعلامي، وفي كل المحافل، رغم أن الواقع العربي يعيش مآس ومعضلات ومظاهر الخلل في كل مؤشرات التنمية، والتعليم، والحريات، والبحث العلمي. لكن الزهو الذاتي هنا لا يُغذّيه المنجز، بل الوهم والترفع عن الواقع. وكما قال المفكر الراحل هشام شرابي: “إن الذات العربية تخلط بين الكبرياء والكرامة، وبين الغرور والوعي بالذات، وهذا ما يجعلها ترفض النقد وتعتبره عدوانًا على الكيان”.

أما السمة الثانية فهي تمجيد القوّة والاحتفاء بالبطولات المتخيلة حتى في أقصى لحظات الضعف. فما إن يسقط نظام أو تُهزم جماعة، أو يباد إقليم أو بلد بكامله، أو يسحق ويُطحن شعب، حتى تنطلق أناشيد “الصمود”، و”الانتصار المعنوي”، و”الضربة الاستباقية”، “والنصر الموعود”، في محاولة مكرورة وبائسة ومكشوفة لإعادة إنتاج وتشكيل الواقع وفق أوهام لغوية وإنشائية تكون أحيانا بليدة. فالقوة، وفق العقلية العربية، ليست إمكانيات مادية وتكنولوجية وعسكرية ضمن مشروع نهضوي واع يستند إلى مؤشرات وموازين معروفة يمكن قياسها، بل هي مجرد تعويض نفسي عن شعور دفين بالهشاشة. وكل من لا يؤمن به يعتبر خائنا أو كافرا أو عميلا.

السمة الثالثة هي إنكار الواقع. وبالتالي لا توجد هزيمة حقيقية، عسكرية أو اقتصادية او حضارية، بل هناك مؤامرة، خيانة، نقص في الامكانات، تخاذل الآخر، تكالب الغرب، الصهيونية العالمية. وهنا مكمن الداء، فالفشل لا يُعزى إلى خيارات القيادات أو خلل التفكير أو ضعف التنظيم، بل إلى الآخر أو إلى الخارج الصليبي والرأسمالي والصهيوني دائمًا. وهذا ما سمّاه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد بـ”البارانويا العربية”، أي صناعة أسطورة المظلومية المطلقة لتبرير كل شيء لدرجة الانتحار. وكل تيار ينتصر درجات على سابقه، مثلا عبد الناصر اعترف بجزء من مسؤولية النكسة، لكن التيارات الإسلامية لا تعترف، ولو على سبيل التواضع، بأي مسؤولية في كل الهزائم التي كانت سببا فيها.

أما الأخطر، وهذا موضوع المقال، فهي السمة الرابعة، والمتمثلة في رفض الاعتراف بالخطأ، بل وحتى بالخطيئة. لأن الخطأ في هذا السياق لا يُفهم بوصفه تجربة إنسانية قابلة للتصحيح، بل يُرى كوصمة عار تُنزع بها الشرعية، وتسقط بها الهيبة والهالة، وتنقلب بسببها الجماهير. لذلك فالقادة والمشايخ والزعماء لا يخطئون، وإن أخطؤوا لا يتراجعون، وإن جلبوا الخراب لا يعترفون، فالخطأ دائما خطأ الآخرين أو بسببهم أو بخيانتهم. وكما قال عبد الرحمن منيف: “أسوأ ما في العقل العربي أنه يخلط بين المسؤولية والمكانة، فيقدّس صاحب السلطة، ويُعفيه من المساءلة، لأن النقد عندنا خيانة، والتساؤل كفر، والتفكير جريمة”.

إن هذه العقلية ليست مجرد موضوع نظري مجرد، بل هي واقع معيش، ونتائجه منظورة، وكوارثه تتوالى وتتكرر كل مرة بلبوس جديد. لقد ظهرت عمليًا في تجارب كثيرة، لا تحتاج إلى شرح مفصّل. ويمكن الاكتفاء بإشارات خاطفة إلى لحظات مفصلية من التاريخ العربي الحديث، حيث رفض زعماء مثل عبد الناصر، والقذافي، وصدام، والأسد، وصالح، والبشير مراجعة سياساتهم وحساباتهم، أو الإقرار بما تسببوا فيه من كوارث لشعوب المنطقة. كلهم آذوا شعوبهم، ودمروا جيوشهم، وضيعوا سيادة واستقلال أوطانهم، وبقوا يرددون خطاب القوة والعزة حتى آخر لحظة.

واليوم، تتجلى الثمار المرة لهذه العقلية بأوضح صورها في سلوك حركة حماس بعد السابع من أكتوبر 2023. فقد أقدمت هذه الحركة على عملية انتحارية بكل المقاييس في حق عدو لا يرحم ولا يلتزم بأي قانون، لم تراعِ السياق الدولي، ولا توازنات القوى، ولا وضع الدول العربية الضعيف جدا، ولا قدرات شعب أعزل محاصر ومقموع منها ومن باقي التيارات الدينية، فكانت النتيجة محرقة غير مسبوقة في قطاع غزة، قتلاً وتهجيرًا وتجريفًا واستباحة لكل ما هو مدني وإنساني وابادة وتجويعا. ومع ذلك، لم تصدر عن قيادة حماس، أو عن جناحها العسكري، أية مراجعة أو وقفة نقدية او تحمل للمسؤولية او اعتذار للشعب الفلسطيني وسكان غزة خاصة. بل خرج الناطق العسكري باسمها، أبو عبيدة، يوبخ العرب، ويحمّلهم مسؤولية المجازر، ويصدر احكامه الدنيوية والاخروية عليهم، وكأنّ القرار لم يكن قرار حماس، وكأن غزة لا يديرها أحد.

وهنا يمكن ملاحظة الفرق بين تعامل إسرائيل، شعبا ونخبا واحزابا، مع قادتهم، حيث يحاسبونهم حسابا عسيرا، ويحاكمونهم ولا تشفع لهم انجازاتهم ولا انتصاراتهم. أما حماس، فكل من ينتقدها في الداخل يقتل أو يعدم علنا، وكل من ينتقد سلوكها السياسي وقراراتها الخطيرة في الخارج، يسلط عليه الاتباع والمغيبون سهام نقدهم، واتهامات التخوين، وكأن حماس مقدسة، وكأن قادتها معصومون. هذا الفارق وحده يرجح كفة إسرائيل…فلا يمكن أن تنتصر شعوب مقموعة لا يسمح فيها بتعدد الآراء، على شعوب ديمقراطية حرة تقدس الإنسان المواطن، وتسعى لتأمين حياته وكرامته وحريته بكل السبل والوسائل.

لم يُسأل أحد من حماس، لم يُحاسَب أحد، لم تُطرح الأسئلة البديهية: هل كان هذا هو التوقيت المناسب؟ هل كانت عملية من هذا الحجم ضرورية؟ هل هي قفزة في الفراغ من بنات افكار السنوار ام هي فعل مخابرات دولية؟ هل كانت النتائج محسوبة؟ هل استُشير شعب غزة؟ هل كانت هناك خطط للمواجهة أو التفاوض أو الحماية؟ كل شيء غائب، والحضور الوحيد هو خطاب الانتصار، والتنديد بالخونة، والتلويح بالمفاجآت القادمة، والتغني بالبطولات على قنوات التضليل، والاشادة بالموت، وتقديم الأطفال قرابين، والتصريحات النارية التي لا تزيد الوضع الا مأساوية.

إن جوهر الكارثة لا يكمن فقط في دمار البيوت، أو قتل الأطفال، أو سفك الدماء البريئة، أو تدمير البنيات التحتية، بل في تكرار المعزوفة ذاتها التي لا تتغير: “نحن على حق”، “نحن منتصرون”، “الزعماء العرب خونة”، “الغرب متآمر”، ” الصهيونية العالمية”، دون لحظة شجاعة واحدة يُقال فيها: “لقد أخطأنا”، وهي الجملة الوحيدة التي لو تجرأ هؤلاء الأبطال الاشاوس على قولها وتمثلها، لأمكن أن تبدأ من بعدها كل إمكانيات التصحيح.

هذا الإنكار، وهذه المكابرة، وهذا الجري إلى الأمام في اتجاه الهاوية، وهذه القداسة المفروضة بالحديد والنار، كل هذا هو ما يُنتج نفس المأساة، في فلسطين، في لبنان، في العراق، في سوريا، في السودان… شعوب تُطحَن، أموال تضيع، أرواح تُزهَق، بنيات تحتية تُدمّر، ولا أحد يُراجع، ولا أحد يبالي أو يتحمل مسؤوليته أو على الاقل يعتذر.

ولأن الاعتراف بالخطأ غائب، فإن شعوب هذه المنطقة تدفع الثمن مضاعفا، ولا شيء سيتغير، ولا أحد يأخد عبرة او يتعلم درسا او يراجع حسابا. تتجدد المعارك ذاتها، بالشعارات ذاتها، بنفس الأساليب، لنتحصي هذه الشعوب النقموعة ضحاياها وتتغنى قسرا بـ”صمود أبطالها”، و”تضحيات شهدائها”، بينما الحقيقة أن لا أحد يحاسب القيادات، ولا أحد يصغي إلى العقل، ولا أحد يحرؤ على التساؤل بصوت مرتفع، او يضع يده على مكامن الجرح، ولا أحد يقرأ موازين القوة وتغير خرائط العالم.

وهكذا، فإن نتائج هذه العقلية لا تنحصر في الخسائر المباشرة، بل تمتد إلى ما هو أعمق: قتل الأمل. شعوب تتحول إلى قطيع، ومجتمعات تدجن، والتنمية تُستبدَل بالشعارات، والمقاومة تُختزل في صور إعلامية تحليلات متهافتة، والحكم يتحوّل إلى دكتاتوريات مموّهة، باسم الدين أو المقاومة أو الكرامة.

لا يمكن لأي مشروع تحرّري حقيقي أن ينجح دون الاعتراف بالخطأ. ولا يمكن لأي حركة مقاومة أن تُلهِم شعبها، إن كانت تُصِرّ على صوابها المطلق.” لإن المجتمعات التي لا تراجع نفسها، تمضي إلى الهلاك، لا بفعل الأعداء، بل بأيدي أبنائها”.

ما تحتاجه هذه المنطقة المنكوبة اليوم هو ثورة عقلية، لا تبدأ من تكديس السلاح، بل من تغيير الافكار وتكديس المعارف والتجارب النافعة. من استبدال ثقافة التقديس بثقافة النقد، من التخلي عن منطق “كلنا على صواب” إلى منطق “كلنا نخطيء “. حينها فقط يمكن أن يُبنى شيء حقيقي، لا مجرد سردية بطولية تُنهي أجيالاً، وتغطي الكارثة بترديد امجاد الماضي واناشيد البطولة والانتصارات.

فالشجاعة ليست في خوض معركة مفروضة او يمكن تجنبها اصلا، بل في نقد الذات وقول الحقيقة ولو كانت مرة.

والشرف ليس في الموت، بل في أنلا يموت الإنسان عبثًا.

والحكمة ليست في رفع اصطناع الصمود ورفع الشعارات البراقة، بل في قراءة اللحظة، ومصارحة النفس، والتفكير في الإنسان قبل كل شيء.