محمد أومليل
هما نتاج السقف المعرفي للقرن التاسع عشر وما عرفه من ثورة علمية وما أنجزته الحداثة من مناهج جديدة وعلوم حديثة لم يكن لهما أثر في العصر الوسيط (العصور المظلمة) بالنسة للغرب.
استفاد ثيودور نولدكه من ذلك السقف المعرفي ومن تلك المناهج والعلوم، لا سيما العلوم الإنسانية والمناهج الحديثة، بالإضافة إلى امتلاكه عدة لغات ما يقرب من عشر لغات، واطلاعه الواسع على مخطوطات عربية بما في ذلك مخطوطات القرآن، وتخصصه في الأدب العربي والتاريخ الإسلامي وثقافة الشرق عموما.
تلك الموسوعية ساعدته أن يمتلك منهجا مركبا؛ كل موسوعي فهو بالضمن يمتلك منهجا مركبا علم به أو لم يعلم.
ذلك ما لاحظته من خلال قراءتي لكتابه “تاريخ القرآن” الذي نحن بصدد الاشتغال عليه.
أغلب الموسوعيين يشتغلون به من حيث لا يشعرون، وقد تنبه إلى ذلك السوسيولوجي والموسوعي (إدغار موران) في أحد كتبه.
وذلك ما سوف نراه ضمن ما ورد في مقدمة (جورج تامر) لكتاب “تاريخ القرآن”: “يمكننا أن نصف الدراسات القرآنية التي أبصرت النور في أوروبا منذ منتصف القرن التاسع عشر بأنها تأثرت، بشكل خاص، بالمنهجية التاريخية النقدية التي شقت طريقها في أوروبا في ركاب عصر التنوير ومورست في دراسات حول الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، قام بها علماء بروستانت في ألمانيا، بعيدا عن أي تأثر ديني، وبروح علمية بحت، لا تتقيد بقدسية أي نص. بالروح نفسه، انكب بعض علماء اللغات السامية (من ضمنهم نولدكه) على دراسة القرآن، محاولين استكشاف الوقائع التاريخية المرتبطة به وكيفية حدوثها وعلاقتها بنشوئه ومصيره بعد ذلك.
ماذا عن هذا الكتاب؟ (تاريخ القرآن) إنه يتألف من أبحاث أدبية تاريخية؛ تسعى إلى أن تؤرخ النص القرآني، أي تعالجه كوثيقة من وثائق التاريخ الإنساني، رابطة إياه بموقعه في الحياة Sitz Leben لتتابع بعد ذلك عملية جمعه وتعدد قراءته. والأداة الأساسية المعتمدة في الدراسات هي البحث اللغوي. هكذا يخضع تيودور نولدكه، في الجزء الأول من الكتاب، الآيات والسور القرآنية لتمحيص لغوي دقيق يستخرج منه، كما سبق القول أعلاه، ترتيبا زمنيا للسور، يختلف عن ترتيب نزولها من وجهة نظر التراث الإسلامي. يعتمد نولدكه إضافة إلى الفيولوجيا على الأحداث التاريخية”.
إذن، هناك عدة مناهج اعتمدها نولدكه ما سميناه ب “المنهج المركب” من ضمنها ما ورد ضمن النص: تاريخي، نقدي، أدبي، لغوي، فيلولوجي، تحليلي، بالإضافة إلى منهج المقارنة بين المصاحف والقراءات والنصوص والمرويات، وذلك رهين بالمنهج الاستقرائي والمنهج الاستنطاقي..، إلى غير ذلك من المناهج المعتمدة لدى تيودور نولدكه في اشتغاله على دراسته القرآنية، معتمدا على “ترتيب النزول” وليس على “ترتيب المصحف”، وتبعه على نفس النهج مجموعة باحثين مستشرقين ( ريجي بلاشير، مونتغمري وات، آرثر جيفري)
ومسلمين (محمد عزة دروزة، محمد عبدالله دراز، محمد عابد الجابري).
ما تقدم ذكره رهين بالمنهج المعتمد لدى ثيودور نولدكه في دراسته للقرآن؛وفق مقاربة تتضمن فرضيات ومنهجية ونظريات وتصور وخلفية معينة.
مما ينبغي توضيحه هو ما له علاقة ب”الخلفية” التي هي لصيقة بكل باحث علم بها أم لم يعلم..، فما هي خلفية نولدكه من وراء تلك الدراسة؟
كل دارس منصف سوف يتضح له جليا أن خلفية نولدكه “علمية بحت” كما أشار إلى ذلك (جورج تامر) أعلاه، وغيره من المنصفين من ضمنهم مثالا لا حصرا: الباحث في الدراسات القرآنية (إسلام سعد).
نولدكه ليس له موقف عدواني من الإسلام، بل العكس نوه به وبصدق النبي وبمكانة القرآن وبروعة لغته ومدى تأثيرها على الحضارة الإسلامية، وليس عميلا خادما لأجندة استعمارية يهودية مسيحية، بل هو مستقل عن كل ذلك.
هو نفسه يستهل كتابه في الجزء الأول؛ فقرة تحت عنوان: “في نبوءة محمد والوحي”: “لا بد لنا من الاعتراف بأن محمدا كان بالحقيقة نبيا.. كلما ازدادت دقة تعرفنا على أحسن كتب السيرة، وعلى المصدر الصحيح لمعرفة روح محمد، ألا وهو القرآن، ترسخ اعتقادنا بأن محمدا آمن في صميم نفسه بحقيقة ما دعي إليه من أن يستبدل بعبادة العرب للأصنام دينا أسمى”، وذلك ما شهد به كذلك (جورج تامر) ضمن مقدمته على كتاب نودلكه.
إلى غير ذلك من الشهادات في حق النبي والقرآن والإسلام بشكل عام، نعم مع الكثير من النقود، وذلك من صميم عمله ومما يندرج ضمن مناهجه المعتمدة “المنهج النقدي”.
ونؤكد أنه بشر، مثل باقي البشر، يصيب ويخطئ، قد نتفق معه وقد نختلف؛ كاتب هذه السطور قرأ له واختلف معه في كثير من آرائه.
أمر طبيعي أن يقع البشر، كائنا من كان، في الخطأ وأن يكون عرضة للنقد الإيجابي والانتقاد السلبي على السواء.
معيار النزاهة، لدى أهل العلم، رهين بالقواعد العلمية الرصينة والقيم الأخلاقية النبيلة، وليس رهينا بالعقيدة والإيمان والعرق والطائفة والأيديولوجيا وما شابه..
الجدوى تكمن في الحكمة والتقوى؛ أساس التقوى مكارم الأخلاق.
قال تعالى: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”. وفي الحديث النبوي: “الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها”.
صدرت ضمن الكتاب آراء صدمت بعض علماء الدين التقليديين الذين لا علم لهم بالمناهج الجديدة والعلوم الإنسانية الحديثة؛ مع أنها تندرج ضمن التراث الإسلامي لدى علماء فطاحلة مثل السيوطي والسجستاني وغيرهما من أكابر أهل العلم.
ذلك ما سوف نتطرق إليه بشيء من التفصيل في الفقرة القادمة.