17 يوليو 2025 / 12:19

في نقد العقل المادي المجرد: الحلقة الثانية

طارق حنيش

في ما يلي الحلقة الثانية من دراسة مطولة للباحث المغربي طارق حنيش بعنوان “في معالم التيه: نقض مفهوم العقل المجرد، وإثبات العقل المؤيد في مسالك الوجود الهيدغري”، والتي ينشرها موقع “دين بريس” من باب التعريف بإنتاجات الباحثين المغاربة والمغاربيين والعرب في الفكر الإسلامي.

*****************************

لعل هايدغر، حين كتب الوجود والزمان، كان قد سئم من الفلسفات السابقة، ونظر إليها نظر من يشهد شفق التحول، لا شمس الاكتمال، وكان سؤاله عن “معنى الوجود؟” لا يهدف إلى إجابة تقريرية، بل إلى خلخلة المعنى برمته. وإن جوابه بأن “الوجود هو وجودٌ من أجل الموت” يحمل في طياته غموضا آخر، بل هو انتقالٌ من الماهية إلى المصير، ومن الذات إلى الزوال، لا على جهة الفناء، بل على جهة الانكشاف الكامل. وها هنا، يعود بنا الكلام إلى مسارات الغاب، تلك التي ليست مسالك هندسية مستقيمة، بل طرقا غير ممهدة، يعتريها التشويش، وتكسوها ظلال التردد، ولا يقصد بها بلوغ غاية محددة، بل هي طرقٌ تفضي إلى قلب الغابة، لا لطلب المعرفة، بل لابتغاء المنفعة، أو الفرار من صخب المدينة. وهي في معناها رمزيةٌ لانفصال الإنسان المعاصر عن ذاته، وضلوعه في تيه اللاغاية، ولكنها لا تخلو من نظم داخلي، يميز بين الدرب المستقيم والمسار المعوج، فتبرز هنا المفارقة: ليس الغموض نفيا للعقل، بل إعلاءٌ لشكل آخر من أشكال الإدراك، هو إدراك المعنى من خلال التيه.

فلينظر كيف تنحل مسالك الفكر بين الماهية والمصير، بين الغاية واللاغاية، وبين السعي إلى الكشف والسكون إلى الغموض، وإنها لمسائل لو شاء الناظر سبرها، لطال به المسير بين الغابة والزمان، وما خرج منها إلا إلى غابة أخرى. ومن المعلوم، لدى من تتبع طرائق القوم في النظر، أن ما يسمى بـ”الدرب المستقيم” في التصور العقلي، إنما كان هو الأساس المضمر في بنية الفكر الغربي، مذ القرن الخامس قبل الميلاد، إذ ارتضت الفلسفة منذ نشأتها الأولى أن تقارب الكائن من خلال الثبات، وأن تقصي الزمان بوصفه عارضا، وأن تعلي من شأن التصورات المجردة التي تتنزه عن الحركة والتحول. غير أن هايدغر، إذ نظر في هذا البناء العريق، لم يخف تحفظه على هذا النهج، بل عده قاصرا عن إدراك حقيقة الوجود كما يعاش لا كما يعقل مجردا. وإن كان له في ذلك مسلكٌ يشكر عليه من جهة تنبيهه إلى بعد طالما أغفل، فإن فكره لم يسلم من مطاعن جلية، فإنه إذ رفض العقلانية، وقع فيما هو أدهى منها، وهو اللاعقلانية المضمخة بالضبابية، والمغلفة بأستار الماضي، تلك التي تتزين بنورانية زائفة، لا تنير السبيل، بل تزيده إبهاما.

لم يكن هايدغر، على ما في فكره من طرافة وشدة بأس، إلا واحدا من جملة مفكرين أرادوا أن يتجاوزوا الفلسفة بالفلسفة نفسها، وأن يعيدوا النظر في مفهوم العقل، لا بالنقض وحده، بل بالتأسيس من جديد. فالمسألة ليست مجرد اعتراض على المفاهيم التقليدية، بل هي نزوعٌ كلي إلى تحويل العقل من آلة صورية إلى حضور شهودي كاشف، ومن أداة تقنين منطقي إلى نظام إدراك كلي ممتد في الذات والعالم. وقد بان، لمن نظر في الاتجاه العام للفلسفة المعاصرة، أن العقل المجرد، ذاك الذي تأطر في قوالب مفهومية قسرية، واغترب عن الزمان والحياة، قد أخذ يفسح المجال أمام أنماط جديدة من الإدراك، أنماط لا تقاس بمعيار المطابقة، ولا تضبط بمقاييس الحد والتصور، بل تتأسس على عقل مؤيد، أي عقل ينهل من شهود باطني، ويتصل بحقائق تدرك من باطن المعنى لا من ظاهر الحد. ويتجلى هذا التحول من العقل المقيد إلى العقل المؤيد في ثلاثة أبعاد كبرى، يصلح كل واحد منها أن يعاد تأطير المسألة الفلسفية على ضوئه:

أولا: ضرورة إدخال الزمان بوصفه عنصرا بنيويا في التفلسف، إذ لا يصح النظر في الكائن بمعزل عن سيرورته، ولا في الذات بمعزل عن امتدادها الزمني، فالوجود لا يفهم إلا من خلال الزمن المعيشي، لا الزمن الرياضي المصمت. وهذا ما نادى به هايدغر في الوجود والزمان، وإن كان تقييده للزمان بالموت قد أضعف الثمرة المترتبة على إدخاله.

ثانيا: الاعتراف بقصور العقلانية التقليدية، تلك التي حصرت الفكر في آليات الاستدلال، وأقصت الجوانب الشعورية، والإلهامات الوجدانية، والمقامات الحدسية، حتى غدت الفلسفة صدى باهتا للعلم، لا سبيلا للكشف عن حقيقة الإنسان. فليس كل معرفة تدرك بالبرهان، ولا كل معنى يحصل بالحد، بل ثمة معان تنال بالتجلي، وحقائق لا تدرك إلا بذوق حضوري.

ثالثا: إبراز مفهوم الكلية والجوانية، لا بوصفه وصفا أدبيا، بل باعتباره أفقا فلسفيا يقتضي إعادة بناء الذات في علاقتها بالعالم، لا بوصفها فاعلا منفصلا، بل مظهرا لحضور كوني مشترك. فالفكر لم يعد محصورا في التقابل بين الذات والموضوع، بل صار يطلب في انكشاف المعنى في تداخل الحضور، وانمحاء الحواجز بين الكينونة والمعنى.

فهذه الأبعاد الثلاثة، وإن تفرقت سبل تأصيلها، إلا أنها تشترك في غاية واحدة، وهي أن يتجاوز الفكر نفسه، لا لينقض ذاته، بل ليعيد بناءها على أسس أشد عمقا، وألصق بالوجود الحي. وإن هذا الاتجاه، مهما وصف باللاعقلانية أو بالتصوف المقنع، فإن فيه من البصيرة ما يجعله جديرا بإعادة النظر، لا سيما في زمن توشك فيه الأدوات التقليدية أن تخنق المعنى، وتقزم الفكر إلى آلة تحليل بلا حياة.

ففيما يتصل بالنقطة الأولى، أعني ضرورة إدخال الزمان بوصفه عنصرا بنيويا في الفهم الفلسفي، فإن هذا الإشكال لم يكن مطروحا على جهة التفصيل والاستيعاب إلا في العصور المتأخرة، إذ شق مساره إلى الدائرة الفلسفية شقا رسميا مع انصرام القرن الثامن عشر، واستواء القرن التاسع عشر، حين أدرك أهل النظر حجم التشويه الذي نزل بمفهوم الزمان، بل فداحة الإهمال الذي طواه، حتى غدا كأنه عرضٌ طارئٌ لا جوهرٌ حاضر. وقد أفرد الفرنسي “بولي” دراسة قيمة لهذا المقام، استهلها بالتنبيه إلى أن مسألة الزمان لم تكن مما أثقل كاهل العقل اللاهوتي عند نصارى العصور الوسطى، إذ لم تكن الهموم الإسكاتولوجية عندهم لتفتح المجال لنظر دقيق في ماهية الزمان نفسه، بقدر ما كانت محصورة في تراتبيات الأزمنة المقدسة، وأسابيع الخلق، وساعـات القيامة. وأما الفكر الإسلامي، فعلى خلاف ذلك، فقد اضطرب فيه سؤال الزمان اضطربا خصبا، فتنازعته مدارس المتكلمين، ووقفت عنده فرق الفلاسفة والمتصوفة والمناطقة، وخرجت منه مقولاتٌ جليلةٌ، كقول القاضي أبي بكر الباقلاني: «الزمان هو مقدار الحركة»، وكقول صدر المتألهين: «الزمان هو بعدٌ وجودي لا ذهني». ولعل باسكال كان من أوائل من مهد السبيل لعودة الزمان بوصفه حقيقة وجودية، لا محض إطار لحركة الأشياء، وهو الزمان الذي نشهده اليوم وقد تكشفت جوهريته، وانزاح عنه ستار الاستعمال الأداتي، الذي جعله أداة للتقويم والقياس فحسب.

ففي الوقت الذي كان فيه ديكارت قد رفع راية التحليل الكمي، وبنى صرحه على الهندسة العقلانية الصارمة، كان باسكال يصوغ فلسفته في منحى قلبي كيفي، ينزع فيه إلى ما هو أرحب من مجرد التجريد، وكأنه ينادي باسترجاع أفق أكثر سعة للوجود، لا يقف عند ظواهر الحركة، بل يتوغل في جواهر المعنى. وههنا يثور سؤال رومانو جوارديني: ماذا قصد باسكال حين تكلم على “القلب”؟ فإنه لم يكن يشير به إلى ما يقابل الحس أو ينازع العقل، ولا كان يريد الإحالة إلى ثنائية الإحساس والمنطق، أو الحدس والعقل، أو النفس والروح، بل إن القلب عنده -كما يفهم من دقائق عباراته– هو موضع معاينة الروح، ومقام تجلي الحقيقة في أصفى صورها.

فهو -باصطلاحنا الكلامي– آلة التلقي الباطني، لا آلة البرهنة الظاهرية، وهو الوعاء الذي لا تنسكب فيه المعاني إلا إذا تجلت على هيئة ذوق أو شهود، لا إذا طبقت عليها قواعد القياس. فثمة معارف لا تنال بالحدود، بل تهدى بالقرب، وحقائق لا تحرز بالبرهان، بل تشهد بالتصفية. وبهذا يغدو القلب –عند باسكال– لا نقيضا للعقل، بل رفيقا له في السير إلى ما وراء الكليات الصامتة. ومن ثم، فإن الإنسان – في هذا التصور الباسكالي – لا يحاط به في دائرة الحد الصوري وحده، ولا تستكمل حقيقته في صور الأنواع والأجناس، بل هو كائنٌ يتداخل فيه الجوهر بالقيمة، كما يتداخل النور بالهواء، لا انفصال بينهما إلا في توهم الذهن لا في حقيقة الكينونة.

إذ ليست القيمة عند باسكال عرضا تابعا لماهية الشيء، بل هي وجهه الغائي الأعلى، بل هي ما يجعل من الماهية شيئا يستحق أن يدرك، لأن القيمة ليست وصفا تجميليا، بل حقيقةٌ وجوديةٌ هي أسمى مراتب الموجود، كما أن النور ليس محض إضاءة، بل هو شرط الرؤية نفسها. وفي هذا الإطار، لا يكون “القلب” مجرد محل لانفعالات نفسانية عارضة، كما هو شأن الأدبيين أو المتصوفين الغافلين عن دقائق الكلام، بل هو عند باسكال مستودع إدراك ميتافيزيقي يتلقى خصائص القيمة لا بوصفه كيانا شعوريا، بل باعتباره واسطة المعنى بين الإنسان والوجود. فهو الناظر في الحقائق لا عن طريق التجريد المنطقي، ولا بالمعايير الصورية، بل عن طريق الكشف المعنوي، والتوجه الباطني، الذي يبصر ما تعجز عن استيعابه النظم البرهانية. وهذا التأويل – لو سلم له بما ينبغي له من التحقيق – لينقض تقابلا كان سائدا في المباحث الفلسفية، أعني تقابل العقل والإيمان، أو البرهان والذوق، فإنه يقيم حدا فاصلا لا بين العقل ونقيضه، بل بين عقل جاف تأنف شرايينه من المعنى، وتتحول معادلاته إلى تمارين هندسية خاوية من الحياة، وبين حدس متمرد يأنف من القيد، ويزدري كل معيار، فينتهي إلى لاعقلانية عبثية لا ضابط لها ولا مقياس. وبين هذين الطرفين، يتوسط “القلب” بوصفه أداة كشف وتلق، لها من صفاء الرؤية ما يصفي به غبش المفهوم، ومن شفافية الذوق ما يهذب به جمود التصور. وبهذا المعنى، يكون القلب عند باسكال عقلا مؤيدا، لا عقلا معطلا، بل عقلا قد تخلق بنور المعنى، وتطهر من كدورة الآلة.

وههنا يستدعي باسكال – على وجه خفي – مفهوما آخر أشد دقة، وهو مفهوم التزكية {netteté}، وهو لفظٌ وإن بدا في صورته تقنيا، إلا أنه عند التحقيق يدل على مقام روحي يتداخل فيه صفاء الجوهر مع بداهة الإدراك، بحيث لا يكون النقاء الحاصل فيه مجرد صفاء حسي أو نفسي، بل هو نقاءٌ أنطولوجي يجعل الإدراك أكثر شفافية، وأدنى إلى الحقيقة، وأبعد عن تشويش القوالب المنطقية أو التقاليد الصنمية. فـ”التزكية” عنده ليست مجرد حالة نفسية، بل هي مقامٌ معرفي راق، تذوب فيه البداهة الفطرية – وهي ما يسميه المتكلمون “المعقولات الأول” – في نور داخلي يصفي النفس من غشاواتها، ويصقل الحدس من شوائب الظن، حتى يصبح المعنى متوهجا لا متوهما، وشهود الحقيقة حيا لا استنباطا ميتا. وبهذين الأصلين: التلقي القلبي للمعنى، والتزكية الصفائية للإدراك، يكون الإنسان عند باسكال كائنا مخلوقا ليتلقى لا ليصنع، وليتأمل لا ليحاكي، وليكشف لا ليحصي، ومن لم يدرك هذا، فقد حصر الكينونة في آلة، والوجود في معادلة.ذ

ولا يسع الناظر، إذ يستقرئ هذه المعاني التي صاغها باسكال في فلسفته القلبية، إلا أن يحاكيها بما قرره أئمة الإسلام في فنون الكلام، وخصوصا ما أثبته الإيجي في المواقف، حيث نص على أن مركز السمع الحقيقي هو القلب، لا الآلة الظاهرة، مستدلا على ذلك بقوله تعالى: ﴿إنها لا تعمى الأبصار ولٰكن تعمى القلوب التي في الصدور﴾، وقوله سبحانه: ﴿لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يبصرون بها﴾، فدلت الآيات دلالة بينة على أن الإدراك الحقيقي – من حيث هو فقهٌ واعتبارٌ – إنما يناط بالقلب، لا بالجوارح المحضة، وأن السمع والبصر من حيث هما وسيلتان فحسب لا يغنيان شيئا ما لم يتلقهما قلبٌ حي. وقد أكد الإيجي في مقام تقريره أن السمع المحمود، والبصر المثاب عليه، لا يكونان إلا إذا صدرا عن قلب يعقل ويتدبر، وإلا، كانت الجوارح كأدوات لا روح فيها، وأشبهت النفس في ذلك آلة ميكانيكية تدرك ولا تعي، وتتحرك ولا تهتدي. وهذا التأسيس الكلامي، إذ يربط بين الوظيفة الإدراكية والقلب بوصفه وعاء للتلقي الواعي، يكشف عن سبق في الفكر الإسلامي لما حاول باسكال أن يقيمه من مقام “القلب”، فإن ما عبر عنه الفرنسي بلغة حدسية وجدانية، قد قرره المتكلمون بلغة برهانية قرآنية، فجعلوا من القلب مركزا إدراكيا أصيلا، لا مجرد موضع للعاطفة والانفعال. بل إن هذا المفهوم في كلام الإيجي وسائر المتكلمين لا يفهم إلا في إطار التمييز بين السمع الواقعي، الذي يتعلق بتلقي الحقائق والعمل بها، وبين السمع الآلي، الذي قد يدرك الصوت ولا يفقه معناه، وقد ينقل العبارة ولا ينفذ إلى مغزاها.

ومن هنا صح أن يقال: “كم من سامع لم يسمع، وكم من ناظر لم يبصر”، لأن الإدراك الحق لا يحصل إلا إذا اقترن الحس بتزكية القلب، كما أشار إليه باسكال في مقام التزكية {netteté}، الذي يشبه عند المتكلمين مقام التخلية والتحلية، إذ لا يدرك المعنى إلا إذا خلت النفس من الأهواء، وتحلت بالصفاء، وتوجهت إلى الحق بقلب سليم. فهكذا تتآخى الحكمة الباسكالية مع الرؤية الكلامية، في بيان أن القلب ليس آلة للشعور فحسب، بل مركزٌ للمعرفة، وعينٌ باطنةٌ، وموضع نور وهدى، ومن حجب عنه، فأنى له أن يبصر، وإن كان له من الأعين ألفٌ، ومن السمع مثله. ويشير باسكال إلى ازدواجية في بنية الروح، بين بعدين اثنين: أحدهما هندسي، أعني ما هو منطقي تجريدي صلبٌ، وثانيهما لطيفٌ {de finesse}، وهو البعد الذي لا يدرك بالبرهان بل يعانق بالشفافية، وهو عند التحقيق أقرب إلى ما سماه الحكماء العقل المؤيد، إذ لا ينطق إلا من مقام الحكمة، ولا يعطي إلا بعد التزكية.

هذه الثنائية، إنما تظهر أن الإدراك الإنساني الكامل لا يتم إلا إذا اجتمع فيه الحد والذوق، البرهان والشهود، الذهن والروح، وهو ما غفلت عنه الفلسفة العقلانية المجردة، وأساءت فهمه اللاعقلانية المفرطة. فالروح الهندسية – على ما فيها من رصانة الترتيب، وسداد التدرج – تسير في مدارج الفكر سير السلحفاة في طمأنينتها، تتحرك على سواء السبيل، لكنها لا تخرج من حدود التقنين، ولا تنفذ إلى أسرار الوجود. وأما الروح اللطيفة، فهي – بما فيها من رشاقة الإحساس، وخفة التوجه – ذات مرونة عجيبة، تبصر ما لا يرى، وتنقاد إلى المعاني بجاذبية الشوق، كما تنقاد العين إلى نور خفي لم يدركه البصر، فتستشعر من المعنى ما لا تدركه الأدوات الظاهرة.

وهذا بعينه، هو ما نبه إليه طه عبد الرحمن في مقام تمييزه بين ما أسماه بالعقل المجرد – وهو عقلٌ أحادي الوجهة، أفقي الحركة، صوري النزعة – وبين العقل المؤيد، الذي لا يتحرك في دائرة المفاهيم المصمتة، بل ينفتح على فضاء الإدراكات الفطرية، المودعة في سر البنية الإنسانية، وذلك بإذن من الفيض العلوي، لا من محض التمرين الذهني. وأما الزمان، فلم يكن عند باسكال مجرد إطار لحركة الكائنات، أو سياقا للوقائع، بل هو بعدٌ أنطولوجي يتخلل الكيان نفسه، إذ أدخل فيه مفاهيم ذات طابع فلسفي شديد الإيغال في الجوانية، كـالملل {ennui}، الذي لا يفهم عنده على أنه ضيق وقت أو خواء مشاعر، بل هو انكشاف غياب الذات عن ذاتها، والتزكية الزمنية، التي تعني تنقية الزمن من الاستهلاك الخارجي، وصقله ليكون ظرفا للحضور الباطني. وإذا كان باسكال، في مقام فلسفته الزمنية، قد نظر إلى الزمان لا كإطار خارجي لحركة الوقائع، بل كـ”تطور داخلي” يلامس وجدان الإنسان، ويعبر عن حركة حضوره في ذاته، فإن هذا المنزع – على تفرده في الفكر الأوروبي – يجد صدى عميقا في تراثنا الكلامي، وخصوصا عند الإمام عبد القاهر البغدادي، الذي أشار – في معرض تقريره لمسائل الزمان – إلى أن الزمان ليس مجرد حاوية للأحداث، بل هو تجل لوجود الإنسان من حيث هو كائنٌ ذو شعور، وذو اتصال مستمر بين حال وسابق ولاحق. وقد قرر البغدادي أن الزمان، في حقيقته، ليس شيئا منفصلا عن الذات، بل هو نابعٌ من تدرجها في الأحوال والشعور، وكأنه يقول: إن الإنسان لا يمر على الزمان، بل الزمان هو الذي يمر من خلال الإنسان. فالزمان عنده ليس خارجيا يقاس بالحركة، بل وجداني يدرك بالتقلب الباطني، وفيه ما يشاكل ما قرره باسكال حين جعل الملل والسكينة، لا الحركة ولا الإنجاز، علامتين على حضور الزمان في الذات. وهذا التقريب بين البغدادي وباسكال، إنما يدل على أن الفهم الباطني للزمان، بوصفه تجليا داخليا، لا قياسا خارجيا، قد سبق إليه أهل الكلام، لا سيما أصحاب المدرسة البغدادية، الذين لم يكتفوا بالنظر إلى الزمان بوصفه كما فيزيائيا، بل اعتبروه صفة لحركة النفس في إدراكها للأحوال. ومن ثم، فالزمان عندهم – كما عند باسكال – لا يقاس بالساعات، بل يشهد بالتحول الوجداني، والتطور الذاتي، والصفاء أو الاضطراب الذي يعتري النفس من آن إلى آن.

هذه الرؤية المعنوية للزمان، إنما هي تأويلٌ وجودي باطني، يربط اللحظة بالحضور، والدهر بالمعنى، والوقت بالوعي، وهذا هو الزمان الذي إن ملكته، ملكت نفسك، وإن جهلته، صرت تابعا لما لا تدركه. ومن لم يشعر بزمانه، فقد تاه في زمان غيره، وإن حمل إليه من الساعات ألف ساعة. وقد تأمل جوارديني هذه الأبعاد من منظور لاهوتي رمزي، ورام أن يربط بينها وبين تجليات الصورة الإلهية، فيما نظر إليها بلوج نظرا نفسانيا وأنثروبولوجيا، مفصلا دلالاتها في بنية الشعور الإنساني. غير أن بولي – بما عرف عنه من ميل إلى الصرامة الرياضية – لم يول هذه الأبعاد التفاتا، فكأنها بقيت حبيسة الظلال، محرومة من مقام التحقيق. ولكن، في حقيقة الأمر، فإن الملل والترفيه ليسا مجرد حالتين نفسيتين متقابلتين، بل هما وجهان لحركة الإنسان نحو الزمان العيني، ذاك الزمان الذي لا يملكه المرء إلا “إذا جلس في غرفته ساكنا”، كما يقول باسكال، لا سكون الخمول، بل سكون الارتكاز إلى الذات، سكون الانقطاع عن ضوضاء الخارج، واستعادة الصلة بالمعنى المستتر. فأن يكون للمرء زمانه الخاص، لا الزمان الذي يستهلك في الأسواق وأزمنة الإعلام، يعني أن يعثر على ذاته، لا في مرآة الجماعة، بل في مقام السكينة. وهنا ينقلب الزمان من ظرف إلى معنى، ومن عد إلى حضور، ومن كم إلى قيمة، وهي مقولةٌ لا يدركها إلا من ذاق مرارة الضجيج، واشتاق إلى صدق السكون.