16 يوليو 2025 / 21:05

ثقافة البودكاست أو ولوج العقل البشريّ سوق الأصوات المستهلكة

طارق حنيش

ثقافةُ البودكاست ليست سوى إحدى تمظهرات عصر التصاوير، لا التصور، وعلامةٌ دامغةٌ على ولوج العقل البشري سوق الأصوات المستهلكة كما تُستهلكُ النكهاتُ المُعلبة.

إنها، في جوهرها، صُورةُ “القول” وقد خلتْ من جُذور “القول”، محمولةٌ على جناح التساهل المعرفي، تُرمى في آذان العابرين كما تُرمى فتاتُ الخُبز للطير الكسير، لا لكي تُبنى، بل لكي “تُملأ” بها الفجواتُ الهشةُ في وعي مُنهك يُكابدُ الخواء بلا أدوات استبطان. فثقافةُ “البودكاست” بما هي عليه اليوم، ليست مجلسا للمناظرة، ولا منصة للتأصيل، بل هي – في الغالب الأعم – مسرحٌ يُعاد فيه تمثيلُ المعنى على هيئة ظل خافت لم يكن يوما هو الأصل. يتحدثُ فيه الجميعُ عن كل شيء، وبلا شيء يُفضي إلى شيء! ولعل هذا هو سرها وجاذبيتُها: أنها تُرضي شهوة الاستماع دون أن تُلزم عناء التفكير، وتُوهمُ المرء بأنه نهل من المعارف ما يُغنيه، وهو لم يزدْ عن أن هجع في غيم الخفة.

ثم إن في هذا الاضطراب السمعي ما يُشبهُ الوثنية الجديدة: عبادة لـ”الصوت” دون مضمون، وتهليلا لـ”المُحدث” قبل التثبت من علمه. ولقد صدق من قال: إن الأصوات حين تُستهلكُ بغير ميزان، تُخرسُ العقول وتستبدل الحُجة بالحدوس المترهلة.

هكذا، غدت “ثقافة البودكاست” حصنا من حُصون “التمثيل الباهت” للفكر، تُكررُ ما قيل، وتصوغُ القديم في جُبة جديدة، لا لتبعثه، بل لتُسلي عنه، لتُداوي به ملل العيش دون أن تفتح بابا على أفق. وإنها، بحق، من مظاهر انحلال “النص” وانتصار “الصورة الصوتية”، في عصر تتقدمُ فيه المؤثراتُ على البيان، وتُستبدلُ النقولُ بالمقول، ويُرفعُ الحشوُ على منابر الظن مرفوع الهامة، ممدود الظل، خاليا من الجنان.